لا أحد كان يتوقع أن تتطور الدعوات الرقمية التي أطلقها شباب مجهولون تحت وسم «جيل زد 212» إلى موجة احتجاجات متزامنة في مدن مختلفة، تتجاوز جغرافيا «الريف» و«جرادة» وتنتشر عبر المجال الحضري الوطني، حاملة معها خطاباً مختلفاً ولغة جديدة لا تتكئ على وسائط تقليدية في التعبئة، بل على خوارزميات «تيك توك» وسرعة «إنستغرام» وحيوية الميمات الساخرة. فجأة وجد البرلمان نفسه أمام نقاش صاخب: هل ما يحدث مجرد «غضبة عابرة» أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، أي أزمة ثقة متنامية في المؤسسات والسياسات العمومية؟
في الجلسات البرلمانية الأخيرة، بدا التباين واضحاً بين مكونات الأغلبية والمعارضة في مقاربة هذه الموجة. الأغلبية تحاول قدر الإمكان أن تمسك العصا من الوسط: تعترف بوجود رسالة قوية من الشارع، لكنها ترفض منطق «الإدانة» أو «تحميل المسؤولية» للحكومة وحدها. المعارضة، من جهتها، التقطت اللحظة لتوجه سهام النقد نحو حصيلة حكومية توصف بـ«المتعثرة»، وتضع أرقام التشغيل والإصلاحات الموعودة موضع تساؤل كبير.
لكن ما الذي قيل فعلاً تحت قبة البرلمان؟ وما الذي لم يُقل بعد؟
أزمة ثقة تتسع
رشيد حموني، رئيس فريق التقدم والاشتراكية، لم يتردد في ربط احتجاجات «جيل زد 212» بتفاقم أزمة الثقة. بالنسبة إليه، ما يقع اليوم ليس مجرد مظاهرات قطاعية أو محلية، بل صرخة وطنية ممتدة تكشف فشلاً في الوفاء بالوعود. الرجل لم يكتف بالعموميات، بل طرح أسئلة محددة: لماذا تتأخر مراسيم الهيئة العليا للصحة؟ لصالح من هذا التأخير؟ هل هناك انحياز مقصود للقطاع الخاص؟
هذه الأسئلة تبدو في ظاهرها تقنية، لكنها تحمل ما هو أعمق: اتهام مبطّن بأن إصلاح الصحة، وهو ورش ملكي، قد يتم الالتفاف عليه لصالح لوبيات تستفيد من هشاشة القطاع العمومي. هنا يتحول النقاش البرلماني إلى ترجمة لصراع خفي بين رؤية دولة تريد «إصلاحاً شاملاً» ولوبيات اقتصادية تبحث عن «استدامة الامتيازات».
حموني لم يتوقف عند الصحة فقط. انتقل إلى قضية التشغيل، حيث أشار إلى المفارقة بين أرقام بنك المغرب التي تبرز مؤشرات مقلقة، وخطاب الحكومة التي تباهت بتوفير 600 ألف منصب شغل. أيهما نصدق؟ يتساءل. الشباب، بحسبه، لم يعودوا يثقون في الأرقام، بل في تجاربهم اليومية: غياب فرص عمل، هشاشة مفرطة، وأفق مسدود.
وهنا تظهر ملاحظة مهمة: المعارضة لا تنكر حجم الإكراهات، لكنها تطالب بـ«الصدق». أي أن الأزمة في جوهرها ليست فقط أزمة «نتائج»، بل أزمة «خطاب» و«مصداقية». ما يستفز الشارع ليس فقط البطالة، بل الفجوة بين وعود كبيرة وحصيلة هزيلة.
خطاب الأغلبية: مسؤولية جماعية أم هروب للأمام؟
في الضفة الأخرى، بدا خطاب الأغلبية أكثر ميلاً إلى التهدئة والتوازن. علال العمراوي، رئيس الفريق الاستقلالي، شدد على أن الاحتجاجات «رسالة واضحة» وصلت إلى الجميع: الحكومة والمعارضة معاً. وحذر من السقوط في لعبة المزايدات أو تحميل طرف واحد المسؤولية، معتبراً أن ذلك سيكون «انتهازية سياسية».
العمراوي حاول أن يرسم صورة برلمانية مثالية: المؤسسة التشريعية تستدعي وزير الصحة، والحكومة مطالبة بالرد، والكل يتحمل نصيبه من المسؤولية. بالنسبة إليه، البرلمان هو المكان الطبيعي للنقاش، لا الشارع. لكن السؤال يظل قائماً: هل البرلمان قادر فعلاً على احتضان هذا النقاش وتحويله إلى حلول ملموسة؟ أم أن الشباب الذين يقودون الاحتجاجات يعتبرون أن هذه المؤسسة نفسها جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل؟
خطاب الأغلبية يبدو وكأنه يوجه رسائل مزدوجة: نعم، هناك أزمة يجب الاعتراف بها؛ لكن في الوقت ذاته، لا يجب تضخيمها أو توجيه أصابع الاتهام للحكومة. هي محاولة «لشراء الوقت» أكثر من كونها انخراطاً صادقاً في مواجهة الحقيقة.
بين الأمس واليوم: من الريف وجرادة إلى «جيل زد»
حين تُسائل المعارضة الأغلبية عن تعاطيها الحالي، يرد الأغلبية بتذكيرها بماضيها: ألستم أنتم من واجهتم حركات اجتماعية حادة حين كنتم في الحكومة؟ هنا يدخل النقاش في لعبة تبادل المواقع. لكن الفرق أن احتجاجات الريف أو جرادة كانت محصورة جغرافياً، بينما احتجاجات «جيل زد» تتميز بانتشار وطني، وبكونها غير مؤطرة حزبياً أو نقابياً.
هذا البعد الجديد أربك الحسابات. فالمعارضة تعوّدت على استثمار الحركات الاجتماعية الموجهة ضد الحكومة، لكن كيف تتعامل مع حركة شبابية لا تتبنى خطابات أيديولوجية ولا تعلن ولاءً لأي طرف سياسي؟ الأغلبية من جهتها تجد صعوبة أكبر: فمقولة «سنحتوي الأمر عبر البرلمان» قد تبدو خارج الزمن في ظل احتجاجات تنتظم عبر العالم الافتراضي أكثر مما تنتظم في الساحات التقليدية.
ما الذي لا يقال؟
وراء التصريحات الرسمية، هناك ما يظل في الظل. حين يقول حموني: «هذه المطالب لاختبار مدى صحة قطاع الصحة»، فهو لا يتحدث فقط عن المستشفيات والمشاريع المؤجلة، بل عن اختبار شامل لمدى قدرة الدولة على الوفاء بوعودها الاجتماعية. وحين يقول العمراوي: «الكل يتحمل المسؤولية»، فهو يلمّح إلى أن تحميل الحكومة وحدها وزر الأزمة قد يهدد التوازنات الكبرى للنظام السياسي.
لكن هناك أسئلة لم تُطرح بوضوح:
-
لماذا يختار الشباب الشارع والفضاء الرقمي بدل الانخراط في الأحزاب أو النقابات؟
-
هل نحن أمام عجز هيكلي في الوساطة السياسية أم أمام تحوّل تاريخي يجعل هذه الوسائط متجاوزة؟
-
ماذا لو استمرت الحكومة في خطابها التطميني، بينما ظل الواقع اليومي للشباب على حاله؟ هل نحن أمام سيناريو تصعيد متواصل قد يعيد إنتاج «حراك وطني شامل»؟


