حلم دولة القبائل بين القانون والسياسة: من باريس تُكتب صفحة جديدة في معركة تقرير المصير

0
89

في وثيقة رسمية تحمل شعار “الحركة من أجل تقرير مصير القبايل – الحكومة القبائلية في المنفى”، وجّه فرحات مهني، رئيس الحركة، دعوة إلى عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والدبلوماسية لحضور “حفل إعلان استقلال بلاد القبائل”، المقرر يوم الأحد 14 دجنبر 2025 بالعاصمة الفرنسية باريس.

خطوة رمزية لكنها تُثير أكثر من سؤال: هل نحن أمام ميلاد كيان سياسي جديد في المنفى؟ أم أمام فصل جديد من فصول الصراع السياسي بين الجزائر وحركاتها المعارضة؟

بين الطموح القومي والواقع الجيوسياسي

البيان الصادر عن الحركة يستعمل لغة القانون الدولي ويستند إلى القرار الأممي 1514 المتعلق باستقلال الشعوب المستعمَرة، في محاولة واضحة لإضفاء الشرعية على مطلب “الاستقلال”.

وجاء في الدعوة: «إن هذا الحدث التاريخي يعيد إلى الشعب القبائلي حقه غير القابل للتصرف في تقرير مصيره في مواجهة السلطة الجزائرية التي ترفض فتح الحوار».

من زاوية الخطاب، لا تخفي “الماك” – وهي حركة تصنّفها الجزائر منذ 2021 منظمة إرهابية – رغبتها في إعادة طرح المسألة القبائلية باعتبارها قضية “تحرر وطني”. لكنها، في المقابل، تجد نفسها في مواجهة واقع قانوني وسياسي معقد، لأن المجتمع الدولي لا يعترف بمنطقة القبائل ككيان مستعمر، بل كجزء من الدولة الجزائرية المعترف بها دولياً منذ 1962.

باريس… منصة إعلان رمزية

اختيار العاصمة الفرنسية لإطلاق هذا “الإعلان التاريخي” ليس صدفة. فبين فرنسا ومنطقة القبائل روابط تاريخية وثقافية تعود إلى فترة الاستعمار، حين كان جزء مهم من النخبة القبائلية متعلماً بالفرنسية ومندمجاً في النسيج الثقافي الفرنسي.

اليوم، بعد أكثر من ستين عاماً على استقلال الجزائر، يبدو أن باريس تعود لتلعب دور المسرح الرمزي الذي تُعرض عليه مطالب الهوية والانتماء.

يقول أحد الباحثين الفرنسيين في شؤون شمال إفريقيا:

“باريس بالنسبة لفرحات مهني ليست مجرد مكان، بل ذاكرة. هي الفضاء الذي يمكن فيه لحركة مثل الماك أن تتحدث بحرية، وأن تلتقي بمن يصغون إليها دون خوف من الملاحقة.”

لكنّ هذا الفضاء الحر يضع فرنسا في موقع حرج. فالجزائر تعتبر أي نشاط انفصالي ضد وحدة أراضيها “تهديداً مباشراً للأمن القومي”، وقد عبّرت في أكثر من مناسبة عن رفضها لما تصفه بـ“تواطؤ الصمت الفرنسي”.

بين القانون الدولي ومبدأ عدم المساس بالحدود

في خطابه، يستند مهني إلى ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة حول حق الشعوب في تقرير المصير. لكن، في الواقع، هذا المبدأ يخضع لتفسيرين متعارضين:

  • التفسير الأول يربطه بحركات التحرر من الاستعمار الأجنبي، كما كان الحال مع المستعمرات الإفريقية في الخمسينيات والستينيات.

  • أما الثاني، الذي تتبناه غالبية الدول الإفريقية، فيستبعد تطبيقه على الحركات الانفصالية داخل الدول المستقلة، حفاظاً على مبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار.

يقول خبير في القانون الدولي من جامعة الجزائر:

“لا يمكن قانوناً اعتبار القبائل شعباً مستعمراً أو خاضعاً للاحتلال. وبالتالي، لا تنطبق عليها شروط ممارسة حق تقرير المصير الخارجي، أي الانفصال التام. يمكن الحديث فقط عن تقرير مصير داخلي، أي حكم ذاتي موسع داخل الدولة.”

بهذا المعنى، فإن “إعلان الاستقلال” الذي تتحدث عنه الحركة يبقى فعلاً سياسياً رمزياً لا أثر قانوني له، لكنه يحمل حمولة إعلامية كبيرة، خصوصاً في ظرف سياسي يشهد توتراً بين الجزائر والاتحاد الأوروبي.

الجزائر: موقف الحزم والتحذير

منذ إدراج حركة “الماك” ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، تبنّت الجزائر سياسة أمنية صارمة ضد أي نشاط مرتبط بها.

مصادر أمنية جزائرية أكدت في تصريحات سابقة أن “الحركة تُدار من الخارج بدعم من شبكات استخباراتية تسعى إلى زعزعة استقرار البلاد”. ورغم أن هذه الاتهامات لم تُثبت قضائياً، إلا أن الخطاب الرسمي الجزائري لا يترك مجالاً للالتباس: الدولة تعتبر القضية خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.

في هذا السياق، يُتوقع أن يثير تنظيم حفل في باريس لإعلان “استقلال بلاد القبائل” ردود فعل دبلوماسية حادة، وربما استدعاء للسفير الفرنسي في الجزائر للتوضيح.فهذه الخطوة، في نظر صانعي القرار الجزائريين، ليست مجرد نشاط ثقافي بل “استفزاز سياسي”.

أوروبا بين المبدأ والمصلحة

يتزامن الإعلان القبائلي مع نقاش أوروبي واسع حول علاقة الاتحاد الأوروبي بجيرانه في الجنوب.
فبعد أيام فقط من توسيع برنامج Erasmus+ ليشمل الجزائر، خرجت أصوات من اليمين المحافظ في فرنسا، مثل النائب الأوروبي فرانسوا كزافييه بيلامي، لتنتقد “تساهل أوروبا مع أنظمة لا تحترم الحريات الأساسية”، في إشارة إلى اعتقال مثقفين وصحافيين جزائريين.

التحركات المتزامنة – توسيع التعاون الأكاديمي من جهة، وإعلان “الاستقلال القبائلي” من جهة أخرى – تضع أوروبا أمام مفارقة أخلاقية: كيف يمكنها التوفيق بين دعمها الرسمي لوحدة الجزائر وميل بعض تياراتها السياسية إلى احتضان حركات معارضة لنظامها؟

بين الحلم والواقع

في خطابه الموجه إلى المدعوين، يحرص فرحات مهني على استعمال لغة هادئة، خالية من التحريض، لكنه يؤكد أن “نضال الشعب القبائلي هو نضال سلمي وعادل”، داعياً المجتمع الدولي إلى دعم “حقه في تقرير مصيره”.

ورغم أن هذا الخطاب يلقى صدى لدى بعض المنظمات الحقوقية الصغيرة في أوروبا، إلا أنه لا يجد أي دعم رسمي واضح من الحكومات الغربية أو من الأمم المتحدة.

ويرى محللون أن “الماك” تراهن على التدويل الإعلامي أكثر من الرهان على اعتراف فعلي، فكل تغطية صحفية أو بيان تضامن يُعتبر مكسباً في معركة الصورة والشرعية الرمزية.

إلى أين تتجه القضية؟

السؤال الجوهري اليوم: هل يمهّد هذا الإعلان لمرحلة جديدة من التصعيد، أم أنه مجرد ورقة ضغط جديدة في لعبة التوازنات الإقليمية؟ من المؤكد أن الحدث، حتى وإن كان رمزياً، يعكس حالة التوتر العميقة داخل المشهد الجزائري بين المركز والهوامش، وبين خطاب الدولة الواحد ومطالب الهويات الثقافية المتعددة. كما أنه يفتح الباب أمام جدل أوسع حول كيفية إدارة التنوع في المنطقة المغاربية، التي ما تزال تتعامل مع المسائل الإثنية واللغوية بمنطق أمني أكثر منه ثقافي أو ديمقراطي.

خاتمة: حلم مؤجل أم بداية مسار؟

في النهاية، “إعلان استقلال بلاد القبائل” كما تصوّره فرحات مهني ليس أكثر من صرخة سياسية موجهة إلى العالم، رسالة تقول: “نحن هنا، لنا هوية وصوت”.

لكن بين الطموح والواقع، وبين القانون والسياسة، تبقى المسافة طويلة. فلا الأمم المتحدة ستفتح ملفاً كهذا بسهولة، ولا الجزائر ستقبل بأي نقاش حول وحدتها الترابية، ولا فرنسا ستجازف بعلاقتها الحساسة مع جارتها الجنوبية.

ومع ذلك، يظل الحدث مؤشراً على أن قضية الهوية في الجزائر لم تُغلق بعد، وأن ما يُكتب اليوم في باريس ليس سوى فصل جديد من قصة طويلة بين “القبائل” و”الدولة”، بين الحلم والذاكرة، وبين السياسة والحق في الوجود.