حين تُسرق الأفكار من الصحفيين والمثقفين وتُباع للناخبين

0
169
صورة موقع هيسبريس

قراءة في التحوّل الاتصالي للسياسة المغربية

بين الفكرة وصاحبها… من يملك الحق في الإبداع السياسي؟

في زمنٍ باتت فيه الصورة أقوى من الكلمة، والانتشار أبلغ من الفكرة، تتعرض السياسة المغربية لتحوّلٍ صامتٍ لكنه عميق: تحوّل من “سياسة الفكرة” إلى “سياسة الاقتباس”، ومن الإصلاح بالفكر إلى التجميل بالاتصال.

يحدث أن يبتكر صحفي أو مثقف رؤيةً جديدة تعيد بناء الجسور بين المواطن والسياسي، فيلتقطها أحدهم بسرعة، يُعيد تغليفها بلغة دعائية ناعمة، ثم يقدّمها للرأي العام كأنها وحيٌ نزل على مقر حزبه.

وهنا ينهض السؤال الجوهري: حين تُستعار الفكرة وتُباع للناخبين، هل تظل السياسة فنًّا للنبل، أم تتحول إلى صناعةٍ للوهم؟

المشهد الأول: ولادة الفكرة

في كواليس النقاشات، تنشأ دائمًا البدايات البسيطة. فكرة صادقة، مفعمة برغبةٍ في إعادة السياسة إلى معناها الإنساني، إلى لحظة صدقٍ بين المواطن والمسؤول، حيث لا يُلقى الخطاب من فوق، بل يُبنى من بين الناس.

كانت الفكرة مشروعًا لإحياء السياسة كحوارٍ لا كدعاية، لكنها سقطت سريعًا في فخّ “التمثيل الاتصالي”، فتحوّلت من رؤيةٍ فكرية إلى مشهدٍ انتخابي، ومن مبادرةٍ مخلصة إلى صورةٍ مُنمّقة، تُعرض في موسمٍ من مواسم التسويق السياسي.

المشهد الثاني: من الإصلاح إلى الأداء

لم يعد يُقاس التجديد في السياسة اليوم بما تُنتجه من فكر، بل بما تُنتجه من ظهور. أصبحت الكاميرا مقرّ القرار، وصار السياسي يُقاس بقدر ما يُشاهَد، لا بقدر ما يُفكّر.

في عالم “الترند” و“المشاهدات”، تراجعت السياسة من فضاء النقاش العمومي إلى مسرح الأداء الاتصالي، حيث تُبدَّل الأقنعة بدل أن تتغيّر القناعات، ويُقاس النجاح بالتصفيق، لا بالتغيير. ومن رحم هذا الانزلاق، وُلدت ظاهرة تسليع الفكرة.

لم يعد الفكر أداة للإقناع، بل سلعة للتزيين. وأصبح المثقف لا يُستشار إلا حين يحتاج السياسي إلى تلميع صورته، لا حين يحتاج الوطن إلى وضوح رؤيته.

المشهد الثالث: الصمت الذي يتكلم

حين تُسرق الفكرة، لا يُسلب صاحبها حقه المعنوي فقط، بل يُسلب منها صدقها الأول. فالنية التي وُلدت لتعيد الثقة بين الناس والسياسة، تتحول إلى وسيلةٍ لبناء الثقة بين السياسي وصندوق الاقتراع. ومن هنا ينبثق السؤال المرّ: هل يمكن لديمقراطيةٍ أن تنضج وهي تُقايض الفكر بالولاء، والمثقفين بالصمت؟ ألا تحتاج السياسة المغربية إلى جرعةٍ من الأخلاق قبل أن تُتقن تقنيات الاتصال؟

المشهد الرابع: حين تتحوّل الفكرة إلى مرآة

ليست المشكلة في من سرق الفكرة، بل في من سمح بذلك. في بيئةٍ ترى الإبداع خطرًا، والنقد خصومة، والمبادرة تمرّدًا، تُقصى العقول الجريئة، وتُكرّم الأصوات المألوفة.

المفارقة أن السياسي الذي يستعير فكرة غيره ليصنع بها مجده، يُقوّض مشروعه السياسي من حيث لا يدري، لأن الفكرة المسروقة بلا جذور، تمامًا كما أن الصورة اللامعة لا تُخفي هشاشة الضوء خلفها.

المشهد الأخير: بين الوعي والذاكرة

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا على كل الاحتمالات: من يكتب ذاكرة السياسة في المغرب هل يكتبها الزعماء الذين يُجيدون الخطابة، أم الصحفيون والمثقفون الذين يُتقنون التفكير؟ ربما آن الأوان لإعادة تعريف العلاقة بين الفكر والسياسة، بين من يُنتج المعنى ومن يُسَوّقه.

فحين تُختزل الفكرة في الدعاية، تُفقد رسالتها، وحين يُقصى صاحبها، تُصاب السياسة بالعمى الذي يسبق دومًا السقوط.

خاتمة: زمن السرعة.. وزمن الفكرة

نعيش زمناً سريعًا في كل شيء… حتى في التفكير. لكن الأوطان لا تُبنى بالسرعة، بل بالمعنى.
وحين يُختطف هذا المعنى من الصحفيين والمثقفين ليُباع للناخبين، يصبح التجديد مجرّد شعار جميل فوق ركام الخيبة. ولأن الوعي لا يُسرق، فإن الأفكار – مهما نُهبت – تعود دومًا إلى أصحابها الحقيقيين، إلى الذين يُفكّرون حين ينام الآخرون، ويحلمون حين يتعب الحالمون.