حين يتحوّل الفساد إلى سؤال دولة: قراءة تحليلية في انتقادات السطي للحكومة ومسار المحاسبة بالمغرب

0
39

يبدو أن تدخل المستشار البرلماني خالد السطي داخل لجنة المالية والتنمية الاقتصادية لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل جاء أشبه بجرس إنذار يضع أحد أعقد الملفات فوق الطاولة: العلاقة المضطربة بين الدولة والفساد، وبين الحكومة ومنظومة المحاسبة.

فما طرحه السطي لم يكن جديداً من حيث المضمون، لكنه اكتسب دلالته من السياق: مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، أي القانون الذي يُفترض أن يعكس فلسفة الدولة في توزيع الموارد وتحديد أولوياتها. ومع ذلك، بدا أن المستشار فضّل أن يذهب إلى عمق المفارقة: كيف يمكن لقانون مالي أن ينجح في ظل بيئة مؤسساتية “تتعايش” مع الفساد بدل أن تواجهه؟

الفساد كمعطى بنيوي… لا كحالات معزولة

السطي لم يتحدث عن فساد عرضي، بل عن “مظاهر مستمرة” تستنزف ميزانية الدولة. هذا الاتهام السياسي، وإن بدا قاسياً في صياغته، يستند إلى تقارير رسمية تؤكد أن كلفة الفساد في المغرب تُقاس بمليارات الدراهم سنوياً.

لكن النقطة الأكثر إثارة في خطابه كانت قوله إن تراجع ترتيب المغرب في مؤشر إدراك الفساد لم يعد مفاجئاً، بل “طبيعياً” في نظره. هذه الجملة وحدها تفتح سؤالاً أكبر:
هل وصل المغرب إلى مرحلة أصبح فيها المواطن يتوقع تراجع المؤشرات بدل تحسنها؟

خطوة إلى الوراء في ترسانة مكافحة الفساد؟

اعتماداً على قراءة السطي، فإن الحكومة الحالية أرسلت إشارات معاكسة لمسار الإصلاح من خلال:

  • سحب مشروع القانون الجنائي، خصوصاً الشق المتعلق بـ تجريم الإثراء غير المشروع؛

  • تجميد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؛

  • غياب اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد عن الاجتماعات منذ سنوات.

هذه العناصر الثلاثة، في نظره، لا تمثل مجرد أخطاء تقنية، بل “تحولاً” في الإرادة السياسية. وهنا يكمن جوهر النقاش:
هل يتعلق الأمر بمراجعة منهجية لتفادي نصوص مثيرة للجدل؟
أم بانسحاب حقيقي من معركة كان يفترض أن تُدار بمنطق الدولة لا بمنطق الدورة الحكومية؟

ربط المسؤولية بالمحاسبة… لماذا يتعثر المبدأ الدستوري؟

يرى السطي أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة فقد جزءاً من روحه، لأن المؤسسات المنتخبة نفسها لم تعد تمارس وزنها الطبيعي.
جوهر تحليله هنا هو أن المساءلة السياسية تبدأ من صندوق الاقتراع، وأن أي إضعاف لدور المنتخبين يعني عملياً شلّ آليات المحاسبة.

منذ دستور 2011، حاول المغرب بناء هندسة جديدة تقوم على:

  • إعطاء البرلمان صلاحيات أوسع،

  • تعزيز دور المنتخبين في صياغة السياسات،

  • تحويل الحكومة إلى فاعل مسؤول أمام مؤسسة تشريعية قوية.

لكن السطي يرى أن الواقع يتحرك في اتجاه آخر، ما قد ينتج عنه “فراغ مؤسساتي” يهدد التوازنات السياسية الدقيقة.

التقاعد، المقاصة، التضخم… حين تصبح الوعود عبئاً

في المجال الاجتماعي-الاقتصادي، يطرح السطي سؤالاً حساساً:
هل ما زالت الحكومة ملتزمة بما تعهدت به؟

فملف التقاعد، حسب قوله، خرج من دائرة التوافق.
وملف المقاصة يتحرك ببطء في وقت تتآكل فيه الطبقة المتوسطة بسبب التضخم.

والدلالة الأعمق هنا أن الأزمة ليست تقنية، بل تعبير عن فجوة بين:

  • خطاب إصلاحي مطمئن،

  • وواقع اجتماعي يزداد هشاشة.

الشغل والحماية الاجتماعية… إصلاح مؤجل

حين يتحدث السطي عن “ضعف منظومة الشغل”، فإنه يشير إلى ثغرة قديمة-جديدة: جهاز تفتيش الشغل شبه معطّل، والوسائل ضعيفة، والحماية الاجتماعية ما تزال غير مكتملة.

اقتراحه بإحداث هيئة وطنية لتفتيش الحماية الاجتماعية يعكس حاجة موضوعية إلى توحيد الرقابة بين وزارتين وصندوق واحد، لكن الأهم هو أنه يعبّر عن غياب حكامة اجتماعية صلبة قادرة على ضبط سوق العمل وتنظيم العلاقات المهنية.

ثغرات “أمو تضامن”… حين تتسع الفجوة بين الخطاب والتنزيل

أبرز ما توقف عنده السطي هو عدم استفادة 8.5 ملايين مغربي من التغطية الصحية. هذا الرقم، إن صحّ، يطرح إشكالاً حقيقياً: هل نحن أمام أكبر إصلاح اجتماعي في تاريخ المغرب، أم أمام أكبر فجوة في تنزيل السياسات الاجتماعية؟

بالنسبة للسطي، “أمو تضامن” يواجه اختلالات جوهرية، ويحتاج إلى مراجعة عاجلة قبل أن يتحول إلى ورش غير قادر على الاستمرار.

قراءة في خلفية المداخلة: أكثر من انتقاد… أقل من اتهام

لا يمكن قراءة خطاب السطي كما لو أنه هجوم سياسي فقط؛ بل هو قراءة مؤسساتية لميزان القوة داخل الدولة.
فالرسالة غير المعلنة هي التالية:

أي إصلاح مالي أو اجتماعي أو اقتصادي سيظل قاصراً إذا لم يُحسم أولاً سؤال الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وفي النهاية، ما يطرحه السطي ليس مجرد تشخيص، بل دعوة لإعادة الاعتبار:

  • للمؤسسات المنتخبة،

  • للثقة بين المواطن والدولة،

  • وللمكتسبات الدستورية التي صيغت كضمانة للاستقرار السياسي.

الخلاصة: هل يفتح مشروع مالية 2026 باباً للنقاش أم يغلقه؟

المداخلة أعادت تشكيل النقاش داخل البرلمان: من نقاش تقني حول القانون المالي إلى نقاش سياسي-دستوري حول اتجاه الدولة.

وفي ظل ما يراه البعض تراجعاً في مكافحة الفساد وتعطلاً في ورش الحكامة، تبدو الرسالة الأساسية كالتالي:

لا إصلاح اقتصادي دون إصلاح مؤسساتي.
ولا حماية اجتماعية دون عدالة سياسية.
ولا ثقة دون محاسبة.

وهذا ما يجعل خطاب السطي، مهما اختلفت القراءات، علامة على لحظة سياسية تحتاج إلى أكثر من مجرد توضيحات… بل إلى رؤية.