في قلب لحظة شخصية إنسانية، خرج الوزير الأسبق عزيز رباح عن صمته، ليخاطب الرأي العام بخطاب مفعم بالقلق على “الذوق العام” وما يصفه بـ”تفشي الابتذال” تحت غطاء الحداثة والانفتاح. فحتى من مقام العزاء، لم يمنعه الأسى من أن يلتقط مؤشرات يراها مقلقة، ويصوغها في مقال تحت عنوان لافت: “حتى لا تختل الموازين”.
فما طبيعة هذا الخطاب؟ وهل نحن أمام غيرة أخلاقية صادقة على الهوية، أم أمام حنين إلى نموذج محافظ يعجز عن مجاراة تحولات الفن والمجتمع؟
بين الحزن الخاص والقلق العام
منذ السطور الأولى، يضعنا رباح أمام مزاوجة بين الشخصي والوطني: بين حزنه على والده، وحزنه الأعمق على ما يعتبره “انحدارًا قيميًا” يهدد مستقبل الوطن. يحوّل الوزير السابق مقاله إلى صيحة ضمير، تستعرض مشاهدَ متعددة من فضاء الفن والإعلام، لترسم صورة قاتمة لما آل إليه الذوق العام، حيث “الابتذال يُكافَأ، والرداءة تُدعم، والتفاهة تُسوّق”.
من الشعبي إلى الراب… أين الضوابط؟
يلفت رباح إلى أنه ليس ضد الفن في ذاته، بل على العكس، يعترف بدوره الحضاري، ويدافع عن تنوعه: الشعبي، العصري، الغربي، والراب. لكن ما يرفضه هو تسويق “فن بلا ملامح ولا ضوابط”، وفن يُستعمل “كقناع يُهدم من تحته المجتمع”، وفق تعبيره.
وهنا يطرح الخطاب تساؤلًا جوهريًا: هل المشكلة في نوع الفن أم في محتواه؟ هل الشعبي والعصري والراب مظاهر انفتاح حضاري؟ أم أدوات جديدة لـ”اختراق ناعم” كما يسميه الوزير السابق؟
نقد بنفَس إنذاري: فن أم فتنة؟
الخطاب لا يكتفي بوصف الانحدار، بل يُحمّل المؤسسات جزءًا من المسؤولية، ويذهب بعيدًا نحو تحذير من “تيار انقلابي متطرف” تسلل إلى مفاصل الفن والإعلام والتعليم، يهدف، بحسبه، إلى هدم الدولة من الداخل، عبر تفكيك الروابط التي تشد المغاربة إلى قيمهم وتقاليدهم ودينهم.
رباح هنا لا يتحدث فقط عن خطر ثقافي، بل عن تهديد وجودي يشبه التآكل البطيء للدولة من بوابة الترفيه.
الدعم العمومي… بأي معيار؟
من أبرز ما يتوقف عنده رباح هو أدوار المؤسسات الراعية للفن. إذ يعتبر أن الدعم العمومي يُغدق على فئات وأسماء “لا تُقبل هيئتها في قاعة محترمة”، ويُساء استعماله لتسويق التفاهة، في حين تُهمّش البدائل الراقية، ويُقصى الفنانون الجادون.
هل نحن أمام خلل في المعايير؟ أم أمام إرادة سياسية-اقتصادية تُفضّل “محتوى استهلاكيًا” يحقق الانتشار دون مراعاة للهوية أو الذوق؟
بين حرية التعبير وضوابط الفن
يستند خطاب رباح إلى فرضية أن الفن يجب أن يكون مؤطرًا بالحياء، والذوق، والانضباط القيمي. غير أن هذا الطرح، وإن بدا حاملاً لهواجس أخلاقية، يثير أيضًا أسئلة عن الحد الفاصل بين “التوجيه” و”الرقابة”.
هل يمكن حماية الذوق العام دون الانزلاق إلى مصادرة حرية التعبير؟ ومن يحدد ما هو “راقي” وما هو “منحط”؟ أهي ذائقة جماعية؟ أم مؤسسة وصية؟ أم الدولة؟
الخلاصة: مرافعة قيمية تبحث عن سياسة ثقافية
يمكن قراءة مقال رباح كمرافعة قَيَمية، لكنها تفتقر إلى اقتراح بدائل. فإذا كانت المشكلة في “التفاهة المدعومة”، فما الحل؟ هل نحتاج إلى وزارة تُنقّح وتفرز وتُحاسب؟ أم إلى دعم ثقافة التعدد والتنوع مع تحفيز الإبداع الجاد؟
الواقع أن خطاب رباح يفتح نقاشًا ضروريًا عن دور الدولة في التوجيه الثقافي، لكنه يبقى، في النهاية، خطاب مقاومة رمزية يعبّر عن حيرة جيل يرى أن معايير الجمال والاحترام والهوية قد تغيرت… وربما ضاعت.