حين يطالب رئيس النيابة العامة بتوثيق تاريخ الجريمة… ما الذي يكشفه هذا النقاش عن هندسة العدالة في المغرب؟

0
155
الصورة : موقع هسبريس

لا تبدو المراسلة التي وجّهها الوكيل العام للملك ورئيس النيابة العامة، هشام البلاوي، مجرد تذكير تقني بإجراء إداري. خلف طلبه من وكلاء الملك تضمين تاريخ ارتكاب الجريمة في أوامر الإيداع بالسجن، تتوارى أسئلة أعمق عن طريقة اشتغال العدالة الجنائية في المغرب، وعن تلك المناطق الرمادية التي تتقاطع فيها حماية الحقوق الفردية مع صرامة الدولة في إنفاذ القانون.

فحين تصبح “الواقعة الزمنية” — أي لحظة ارتكاب الجريمة — عنصراً محورياً في مسار المحاكمة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بضبط ملف أو ترتيب وثيقة، بل ببناء سردية قانونية دقيقة تُحدد مصير شخص، وربما تُكشف معها ثغرات بنيوية طال انتظار إصلاحها.

التاريخ… حجر الزاوية في العدالة الجنائية

تشير المراسلة إلى أهمية توثيق لحظة ارتكاب الجريمة لما يترتب عنها من آثار قانونية: حساب مدة التقادم، تحديد سن المشتبه فيه لمعرفة ما إذا كان حدثاً أم راشداً، وتقدير وضعه القانوني أثناء التنفيذ. هذه المعطيات ليست تفصيلاً — إنها جوهرية لإنتاج عدالة منصفة، لأنها تُحدد طبيعة الإجراءات، ونوعية العقوبة، وكيفية تنفيذها.

في السياق المغربي، حيث تتداخل الملفات وتتعقد المساطر أحياناً بفعل البطء الإداري أو كثافة القضايا، يصبح تحديد التاريخ بدقة فعلاً إصلاحياً بامتياز. فهو يعيد الانتباه إلى أن العدالة لا تُبنى فقط في قاعات المحاكم، بل أيضاً في السطر الصغير الذي يُكتب في هامش الوثائق.

بين قانون جديد ومؤسسة في طور إعادة البناء

منذ دخول القانون رقم 03.23 المتعلق بتعديل المسطرة الجنائية حيّز التنفيذ، تحاول النيابة العامة إعادة ضبط أدواتها وفق معايير أكثر دقة. فالتعديلات الأخيرة جاءت في سياق وطني يبحث عن توازن جديد بين فعالية المتابعة القضائية وضمانات المحاكمة العادلة.

طلب رئيس النيابة العامة يعكس، بشكل غير مباشر، هذا التحول. فإدراج تاريخ الجريمة أصبح شرطاً لتفادي تعقيدات مستقبلية: كيف تُحتسب العقوبات إذا وُجد تعدد في الجرائم؟ متى يطبق الإكراه البدني؟ وهل يجوز إدماج الأحكام أم يجب تنفيذها بشكل منفصل؟ كلها أسئلة لا تجد جوابها إلا بوجود “نقطة زمنية” واضحة.

من الوثيقة إلى الفلسفة القانونية

وربما الأهم، هو أن هذه الدعوة تفتح نافذة على سؤال أكبر: هل نعيش انتقالاً من العدالة التقليدية — القائمة على منطق الإجراءات المرتبّة ـــ إلى عدالة أكثر حداثة تؤمن بأن التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الإنصاف؟

إن التركيز على التاريخ ليس مسألة شكلية، بل هو جزء من فلسفة قانونية تعتبر أن العدالة ليست قراراً نهائياً يصدر في آخر الجلسة، بل سلسلة من الضوابط الدقيقة التي تضمن ألا يتحول القانون إلى أداة للمغالبة أو الشطط.

في الخلفية… مجتمع يتغير ودولة تعيد ضبط أدواتها

هذا النقاش يعكس أيضاً تحولات اجتماعية أعمق: فقد أصبح المجتمع المغربي أكثر حساسية تجاه موضوع الحقوق، وأكثر وعياً بالتوازن بين صرامة المتابعة واحترام الضمانات القانونية. وفي المقابل، تبدو مؤسسات العدالة في مسار تحديث ضروري كي تتفاعل مع هذا الوعي الجديد.

إن مراسلة البلاوي ليست حدثاً بيروقراطياً، بل مؤشراً على مرحلة تتقاطع فيها الحاجة إلى الدقة مع مطلب العدالة، وتتعايش فيها الإصلاحات القانونية مع تحديات التطبيق اليومي.