في خضمّ احتجاجات غير مسبوقة يقودها جيل ما بعد الألفية، خرج الوزير السابق والقيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار محمد أوجار بتصريح لافت على قناة “العربية”، وصف فيه هذه الموجة الشبابية بأنها “تمرين ديمقراطي إيجابي”، داعياً الشباب إلى نقل مطالبهم من الشارع إلى صناديق الاقتراع.
لكن خلف هذا الخطاب المتفائل، يمكن قراءة أعمق لمعانيه ودلالاته السياسية: هل نحن أمام موقف شخصي تقدّمي من داخل المنظومة الحاكمة؟ أم أمام رسالة سياسية محسوبة لتهدئة الشارع وإعادة توجيه الغضب نحو قنوات مؤسساتية، دون المساس بجوهر السلطة التنفيذية؟
تحوّل في الخطاب الرسمي؟
حديث أوجار يختلف عن اللغة المعتادة لبعض المسؤولين في لحظات التوتر الاجتماعي. فهو لم يتبنَّ خطاب التخويف من “الفتنة” أو “الانفلات”، بل اختار نغمةً أكثر هدوءاً واحتضاناً للاحتجاجات، معتبراً أن “المغرب بلد عريق في التظاهر، وأن الأجيال الجديدة تبعث الأمل في تجديد السياسة”.
هذا التحول، إن تأكد، يعني أن جزءاً من النخبة الحاكمة بدأ يدرك أن جيل زد ليس ظاهرة عابرة، بل فاعل سياسي جديد يفرض نفسه خارج الأطر الحزبية التقليدية.
بين الشارع وصندوق الاقتراع
يُراهن أوجار على نقل الحماس الاحتجاجي إلى المجال الانتخابي، مشيراً إلى أن “السنة سنة انتخابية، والحكومة ستتجاوب عبر مشروع قانون المالية”.
لكن هنا يُطرح السؤال المحوري: هل يثق هذا الجيل فعلاً في جدوى الانتخابات؟ كيف يمكن لشبابٍ يعبّر في الشارع عن فقدان الثقة في المؤسسات أن يقتنع بأن الحل يوجد داخلها؟
الجواب لا يبدو بسيطاً، لأن أزمة الثقة ليست تقنية أو ظرفية، بل هي أزمة تمثيلية وأفق سياسي. فجيل زد لا يرى نفسه في الأحزاب القائمة، ولا يجد خطاباً يعبّر عن واقعه الاجتماعي والاقتصادي.
بين التهدئة والاعتراف
من جهة أخرى، حرص أوجار على “تبرئة الشباب” من أحداث العنف، ملقياً باللوم على “منحرفين اخترقوا المسيرات”. هذه الإشارة لا تخلو من دلالات سياسية مهمة: فهي محاولة لتمييز الاحتجاج النبيل عن الانفلات المحسوب، وبالتالي حماية شرعية الغضب الشبابي من وصمة “التخريب”. لكنها في الوقت ذاته تحمل نزعة تأطيرية، إذ تحصر الشباب في خانة التعبير “الجميل” و”الحلم بمغرب نظيف”، دون الذهاب إلى عمق الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية التي تفجّر هذا الغضب.
هل تملك الحكومة فعلاً إرادة الإصغاء؟
يؤكد أوجار أن الحكومة “ستتجاوب عبر قانون المالية”، وهو وعدٌ يثير كثيراً من التساؤلات.هل يمكن لمشروع قانون المالية أن يستوعب هذا الكمّ من الغضب؟ هل تستطيع أرقام الموازنة معالجة شعور جيلٍ كامل بالإقصاء واللاجدوى؟ ثم كيف يمكن الحديث عن تجاوب فعلي، في ظل بنية سياسية ما زالت تُقصي الشباب من صناعة القرار؟
الجواب عن هذه الأسئلة لا يُقاس بالنوايا، بل بمضمون قانون المالية القادم: هل سيكون اجتماعيّاً موجهاً حقاً للشباب؟ أم أنه مجرد وعد تهدئة ظرفي في انتظار عودة الاستقرار؟
جيل يفرض نفسه على المشهد
يبدو أن تصريحات أوجار تعكس إدراكاً جديداً بأن الجيل الرقمي الذي خرج من العالم الافتراضي إلى الشارع لم يعد قابلاً للتجاهل أو للتبسيط.
جيلٌ يطالب بمغربٍ أكثر عدلاً ونزاهة وشفافية، ويعيد تعريف السياسة خارج المؤسسات القديمة.
ولعلّ في قول أوجار: “كنا نعتقد خطأً أن هذه الأجيال غير مهتمة بالسياسة، فإذا بها تهتف في الشوارع بحلمها بمغرب نظيف” اعترافاً ضمنياً بخللٍ عميق في فهم الدولة لهذا الجيل.
خلاصة تحليلية
خطاب أوجار يبدو في ظاهره دعوةً للعقل والانتخاب، لكنه في جوهره تعبير عن مرحلة انتقالية بين منطق “الضبط” ومنطق “الاستماع”. إنه خطاب براغماتي ناعم يراهن على تهدئة الشارع عبر الاعتراف الجزئي بمشروعية الغضب، دون الذهاب بعيداً في مساءلة السياسات العمومية.
لكن قيمته الحقيقية تكمن في أنه كسر جدار الصمت داخل الأغلبية الحكومية، وفتح الباب أمام نقاشٍ أعمق حول علاقة الدولة بجيلٍ جديد من المواطنين لم يعد يقبل أن يُسمع فقط، بل يريد أن يُحاسِب أيضاً.
هل سيكون تصريح أوجار بداية تحول في وعي السلطة؟ أم مجرد تكتيك لامتصاص غضبٍ قد يتجدد في أي لحظة؟
الأسابيع المقبلة وحدها ستُظهر إن كان “التمرين الديمقراطي” الذي تحدّث عنه، هو فعلاً بداية مرحلةٍ جديدة، أم مجرد فصلٍ آخر من دروس إدارة الأزمات في المغرب.