“دراسات على الرفوف ومليارات تتبخر: هل نعيش زمن الريع المقنّع… في غياب الحسيب والرقيب؟”

0
123
صورة: و.م.ع

كأنها دراساتٌ كُتبت لتُنسى، وأموالٌ أُنفقت لتُهدر.
بين رفوف الإدارات العمومية تتكدّس تقارير أنفقت عليها خزينة الدولة مليارات الدراهم، دون أن ترى النور أو تتحول إلى سياسات أو مشاريع ملموسة. مشهد يبدو عاديًا في سياق مغربي يتقاطع فيه المال العام مع غياب المساءلة، لكن في العمق، هو أحد أكثر مظاهر الريع المقنّع خطورةً، لأنه يتسلّل باسم “العلم” و”الخبرة” و”الدراسة التقنية”، بينما يخفي وراءه شبكة من العلاقات والمصالح.

تحركات المفتشية العامة للمالية الأخيرة لم تأتِ من فراغ. فحين يشرع مفتشو الدولة في تدقيق ملفات “دراسات وهمية” بمليارات الدراهم، فإن ذلك يعني أن شيئًا عميقًا في منظومة تدبير المال العام بدأ يتفكك أو يُكشف. فالأمر لا يتعلق بمجرد “صفقات مشبوهة”، بل بظاهرة مؤسسية متجذّرة، تحوّلت فيها مكاتب الدراسات إلى أدوات لتدوير الريع بطرق قانونية المظهر، فاسدة الجوهر.

لقد بات من المألوف أن تُبرمج دراسة حول مشروعٍ ما أكثر من مرة، تُنجز في كل مرة بتكلفة جديدة، لتُركن في النهاية إلى الرف نفسه. السؤال هنا ليس كم كلفت هذه الدراسات، بل لماذا لم تُستثمر نتائجها؟ وهل كان الهدف أصلًا الوصول إلى نتائج، أم إلى فواتير؟

هذا النوع من “الاستشارات” لا يُقاس فقط بالأموال الضائعة، بل بالثقة المتآكلة في مؤسسات الدولة. فحين يشعر المواطن أن المليارات تُصرف على أوراقٍ لا تُقرأ، وعلى تقاريرٍ لا تُنفذ، تتآكل الثقة في جدوى الرقابة والمحاسبة، وتتحول الإدارة العمومية من فضاء للخدمة العامة إلى مختبرٍ لتصنيع الريع الإداري.

من زاوية أخرى، تكشف هذه الظاهرة عن ثقافة إدارية مأزومة، لا تبحث عن المعرفة كقيمة، بل كذريعة للإنفاق. فبدل أن تستثمر المؤسسات في خبراتها الداخلية وكفاءاتها الوطنية، تُفضّل تفويض “العقل الإداري” إلى مكاتب دراسات خارجية، كثير منها يُدار من قبل أشخاص تربطهم علاقات مشبوهة بمسؤولين وموظفين كبار.

هكذا يصبح “الخبير” مجرد واجهة، و“الدراسة” مجرّد تبرير مسبق لهدرٍ لاحق.

ولعلّ أخطر ما أفرزته التحقيقات هو ما تم رصده من استنساخٍ لأبحاث أكاديمية أنجزها باحثون مغاربة، حُوّلت إلى “دراسات مؤدى عنها” دون إذن أصحابها. مفارقة صادمة تكشف كيف يُحوَّل الفكر إلى سلعة، والمعرفة إلى وسيلة للاغتناء.

غير أن السؤال الجوهري يظلّ معلقًا: أين كانت الرقابة طيلة هذه السنوات؟ كيف مرّت صفقات بمليارات الدراهم دون أن يرفّ جفن لأي جهاز رقابي أو حكومي؟ وهل يمكن الحديث عن فسادٍ إداريٍّ معزولٍ، أم نحن أمام منظومة كاملة من الصمت الممنهج؟

إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد تحقيق في صفقات مالية، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على محاسبة ذاتها. فالمفتشية العامة للمالية، مهما بلغت كفاءتها، لن تستطيع وحدها مواجهة هذا النوع من “الريع الذكي”، ما لم تُفعّل آليات الشفافية وتُنشر نتائج التحقيقات للرأي العام.

لأنّ الفساد حين يُدار في الظلّ، يتغذّى من الغموض، وحين يُكشف للعلن، يبدأ بالانكماش.

في النهاية، يبدو أن المغرب لا يعيش فقط أزمة مالية أو رقابية، بل أزمة أخلاق في تدبير المال العام. حين تُنفق المليارات على “دراسات” لا أحد يقرأها، وتُمنح صفقات “استشارية” لمكاتب بلا خبرة، ثم تمرّ كل هذه العمليات دون حسيب ولا رقيب، فذلك يعني أننا أمام شكل جديد من الريع، أكثر دهاءً من الفساد الكلاسيكي، وأشد خطرًا على المستقبل من كل أشكال الهدر السابقة.

فهل سنشهد لحظة مواجهة حقيقية مع هذا الريع المقنّع؟ أم سنواصل تكديس الدراسات على الرفوف… ونكتفي بمشاهدة المليارات وهي تتبخر؟