دقيق الورق أم ورق العدالة الاجتماعية؟ بين الاتهام والإنكار.. أزمة الثقة تتسرب إلى لقمة الفقير المغربي  

0
300

ستة عشر مليار درهم تتبخر في مطاحن الدعم… قنبلة سياسية جديدة انفجرت تحت قبة البرلمان حين كشف أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة، أن ما يُفترض أنه “دقيق وطني مدعم” قد لا يكون سوى دقيق ورق.

خلف هذا الاتهام المدوّي تتوارى منظومة دعمٍ مترهّلة فقدت معناها الاجتماعي، وتحوّلت إلى فضاء للريع والفساد المقنَّع. فبين دعمٍ حكومي يتجاوز 16.8 مليار درهم، ومراقبةٍ غائبة أو متواطئة، يطرح السؤال المرّ نفسه: من يلتهم أموال الدعم؟ ومن يطحن الحقيقة قبل القمح؟
إنها ليست قضية دقيقٍ فاسد، بل قضية نظامٍ يغذّي الفساد بدل أن يُطعم العدالة الاجتماعية.

في لحظةٍ بدت فيها قبة البرلمان مسرحاً لتصريحاتٍ صادمة أكثر منها نقاشاً تشريعياً هادئاً، أطلق النائب أحمد التويزي عن حزب الأصالة والمعاصرة قنبلة سياسية حين تحدث عن “شركات تطحن الورق وتقدمه كدقيق مدعم للفقراء”. لم يكن التصريح مجرد زلة لسان أو خطأ سياسي عابر، بل فتح جرحاً قديماً في جسد العدالة الاجتماعية المغربية: جرح الثقة. فأن يُثار الشك حول ما يُقدَّم للمواطن من خبزٍ مدعوم، يعني أن الشك بدأ يطال ما هو أعمق: الثقة في المؤسسات، في الرقابة، وفي معنى الدولة كضامنٍ للكرامة قبل الغذاء.

بين من يرى في كلام التويزي جرس إنذار متأخر لمنظومة دعمٍ متآكلة، ومن يعتبره خطاباً انتخابياً يسعى إلى تأليب الرأي العام، يظل السؤال الأهم معلقاً في الهواء:

هل يمكن للمغربي أن يطمئن إلى لقمةٍ مدعومة لا يعرف مكوناتها، ولا مسارها، ولا من يراقبها؟

من “الدقيق المدعم” إلى “الدعم المطحون”

منذ سنوات، تحولت منظومة الدقيق المدعم إلى واحدة من أكثر الملفات غموضاً في العلاقة بين الدولة ومواطنيها. المغاربة الذين يُفترض أن تصلهم هذه المساعدات يشتكون من رداءة الجودة وانعدام الشفافية في التوزيع، فيما تستفيد منها شركات محددة لا يعرف عنها المواطن سوى الاسم.

التصريحات الأخيرة لم تفعل سوى تعرية واقعٍ كان يُخشى النطق به. فقد دعا كل من المرصد المغربي لحماية المستهلك والمركز المغربي لحقوق الإنسان إلى فتح تحقيقٍ رسمي عاجل في ما أُثير، معتبرين أن الأمر لا يتعلق بمجرد منتوجٍ فاسد، بل بـ عبثٍ يطال العدالة الاجتماعية نفسها. فالخبز ليس مجرد غذاء، بل رمزٌ للكرامة. وحين يُمس هذا الرمز، تتحول القضية من شأنٍ تقني إلى مسألةٍ وطنية تمس جوهر الأمن الغذائي والثقة العامة.

بين القضاء والسياسة.. من يملك الحقيقة؟

الرد لم يتأخر. فقد سارعت الفيدرالية الوطنية للمطاحن إلى نفي الاتهامات ووصفتها بـ”الإشاعات الخطيرة”. لكن النفي وحده لم يكن كافياً لتبديد الريبة المتراكمة في ذاكرة المغاربة، تلك التي حفظت جيداً قصص الغش في الدقيق والمواد المدعمة عبر العقود. لهذا كان مطلب فتح تحقيقٍ قضائي ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورةً لوقف نزيف الثقة.

المرصد المغربي لحماية المستهلك طالب النيابة العامة باستدعاء النائب صاحب التصريحات وتمكينه من تقديم أدلته، مؤكداً أن مثل هذه القضايا لا تحتمل المزايدة، وأن العدالة إما أن تكشف الحقيقة كاملة، أو تُتهم هي الأخرى بالتواطؤ بالصمت. وفي المقابل، إذا تبين أن الاتهامات لا أساس لها، فسيكون على صاحبها أن يتحمل تبعات نشر الذعر والشك، لأن اللعب بخبز الفقير ليس شأناً سياسياً بل خطيئة أخلاقية.

الدعم بين العجين والعطب

القضية تجاوزت حدود الشبهة الغذائية إلى ما هو أعمق: فشل فلسفة الدعم الاجتماعي ذاتها.
فمنذ عقود، تُصر الحكومات على دعم المواد الأساسية عبر الوسطاء والشركات، بينما تتسرب المساعدات إلى جيوب المنتفعين بدل أن تصل إلى المحتاجين الحقيقيين. ولذلك لم يكن غريباً أن يطالب الفاعل الحقوقي عبد الإله الخضري بإعادة هيكلة شاملة للنظام الحالي، والانتقال من الدعم العيني إلى الدعم المباشر عبر السجل الاجتماعي الموحد، حتى لا يظل الفقير رهينة لتجار الدعم ولا يبقى المال العام رهينةً للفساد المقنَّع.

وهنا يبرز سؤالٌ موجع:هل نحن أمام دعمٍ للفقراء، أم أمام فقرٍ في الدعم نفسه؟ إنها معادلة تختزل مأزق السياسة الاجتماعية في المغرب، حيث تُنفق الملايير باسم التضامن، دون أن يصل التضامن إلى موائد من صُمم من أجلهم.

أزمة الدقيق أم أزمة الدولة؟

في العمق، ما يجري لا يتعلق فقط بـ”دقيقٍ ملوث” أو “تصريحاتٍ متهورة”، بل هو مرآةٌ لأزمة أعمق تمس طريقة اشتغال الدولة نفسها. فحين تتراجع آليات المراقبة إلى مجرد شعارات، وحين تغيب المساءلة الحقيقية، يصبح المواطن آخر من يعلم بما يدخل إلى بيته.

من يراقب من في منظومة الدقيق المدعم؟ ولماذا تظل ملفات الدعم محاطة بالسرية وكأنها من أسرار الأمن القومي؟ وكيف يمكن لدولةٍ تتحدث عن “نموذجٍ تنموي جديد” أن تُقنع المواطن بمستقبلٍ أفضل، وهي عاجزة عن ضمان خبزٍ آمن اليوم؟

قد يكون التويزي قد بالغ، وقد يكون صادقاً، لكن ما لا جدال فيه أن تصريحه حرّك المياه الراكدة وكشف هشاشة منظومةٍ تُخفي تحت طحينها الكثير من الغبار.

ففي النهاية، سواء طُحن الورق فعلاً أو لم يُطحن، يبقى الأكيد أن العدالة الاجتماعية نفسها تُطحن يومياً في مطاحن البيروقراطية والسياسة.