في قاعة صغيرة بالرباط، مساء بارد، بدا محمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، مختلفًا عن الصورة النمطية للسياسي البارد، المجرّد من الانفعال. لم يتمالك دموعه وهو يتحدث عن أطفال قريته حفاة على الثلج، وعن أمٍّ مُنهكة تصطدم بجدار الضرائب وهي تبحث عن ثمن علاج والدتها.
كانت القصة أبعد من مجرد خطاب سياسي: كانت صرخة، أو ربما محاولة يائسة لإحياء كلمة يكاد المغاربة ينسونها في خطاب السلطة: “الكبدة”.
لكن، هل تكفي الدموع لتغيير واقع يُحاصر الناس كل يوم؟ هل ما يطالب به أوزين اليوم هو اعتراف ضمني بأن السياسة فقدت إنسانيتها؟
“الفلوس كاينة”… ولكن أين أثرها؟
قالها أوزين بصوت يحمل خليطًا من الغضب والحسرة: “الفلوس كاينة”. الأرقام التي تعلنها الحكومة ضخمة، لكنها، كما وصف، تتبخر قبل أن تلمس حياة المواطن. تُقتطع الضرائب مباشرة من جيوب الناس، دون إشعار، ودون أن يعود ذلك في شكل مدارس تحفظ كرامة الأطفال، أو مستشفيات تحترم أبسط معايير الإنسانية.
السؤال هنا ليس: هل نملك المال؟ بل: لماذا لا نملك أثره؟ أين يضيع الطريق بين الخزينة العمومية وجيب المواطن؟ ولماذا يشعر المغربي دائمًا أنه يدفع فاتورة لا تعود عليه إلا بمزيد من العجز والإحباط؟
حين تغيب الإنسانية من المصحات
من منصة الخطاب، لم يخف أوزين جرحه الشخصي: رفض إحدى المصحات بالرباط استقبال والدته المريضة (رحمها الله) لأن توقيعه على الشيك لم يكن في مكانه الصحيح.
هل القانون هنا مقدّس إلى حد سحق إنسانية مريض؟ هل نحتاج أن نُذكّر أن غاية الطب هي الرحمة قبل الحسابات؟
هذه الحكاية ليست مجرد حادثة فردية، بل مرآة لمعاناة أوسع يعيشها آلاف المغاربة مع مستشفيات عمومية متدهورة، وحلول ترقيعية لا تحترم المريض كمواطن، بل كـ“ملف” أو “رقم” أو “شيك ضمان”.
أبناء “المغرب العميق”… الوجع المستمر
في لحظة انفعال، استعاد أوزين صور أطفال قريته وهم يصعدون نحو المدرسة على ارتفاع 2200 متر عن سطح البحر: بعضهم حفاة، وبعضهم بصنادل رخيصة لا تقاوم برد الجبال. هؤلاء الأطفال، قال، هم من يجعلونه يتساءل: “متى يكون عند حكومتنا شوية ديال الإنسانية؟”.
لكن السؤال الأكبر يفرض نفسه: هل العدالة المجالية التي تتغنى بها الحكومات المتعاقبة مجرد شعار للاستهلاك السياسي؟ أم أن المطلوب هو إرادة حقيقية تفكك المركزية المفرطة وتعيد توزيع الاستثمار العمومي بما يُنصف القرى والجبال كما تُنصف المدن الكبرى؟
دموع سياسية أم بداية صحوة؟
أوزين ختم حديثه بالتأكيد أن المسؤولية ليست في الامتيازات ولا في “القشور” التي يسعى وراءها الوزراء، بل في الجوهر: العدالة المجالية والمهنية القائمة على الإنصاف.
لكن، إذا كان زعيم سياسي بارز يُذرف دموعه اليوم، فماذا عن دموع المواطن البسيط الذي يذرفها بصمت كل يوم؟
هل نحن أمام لحظة صدق سياسي نادرة؟ أم مجرد فصل آخر من فصول الخطابة التي لا تغيّر شيئًا في واقع يزداد قسوة؟