«دورية وزير الداخلية: بين ضبط المالية الترابية واحتواء الغضب الاجتماعي»

0
141
صورة: و.م.ع

قراءة في الرسالة الخفية لوزارة الداخلية وسط حراك جيل زد

لحظة سياسية غير عادية

حين يوجّه عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، دورية تقنية إلى الولاة والعمال تتعلّق بإعداد ميزانيات الجماعات الترابية لسنة 2026، في وقتٍ يغلي فيه الشارع المغربي بحراك شبابي غير مسبوق، فإن الرسالة تتجاوز حدود الإدارة والمالية. فهي ليست مجرد مذكرة مصلحية، بل إشارة سياسية دقيقة إلى أن الدولة تدخل مرحلة جديدة من إعادة هندسة الإنفاق العمومي وفق الرؤية الملكية لتنمية مجالية مدمجة ومتوازنة.

المركز يستعيد الإيقاع من الهامش

تبدو الدورية وكأنها تعيد ترسيم العلاقة بين المركز (وزارة الداخلية) والجماعات الترابية (المنتخبين المحليين). ففي حين يُفترض أن تكون الجهوية المتقدمة رافعة للامركزية، تكشف لغة لفتيت عن عودة قوية للقيادة المركزية من خلال الدعوة إلى “توحيد الجهود” و“الانخراط في الورش الاستراتيجي الملكي”.

بهذا المعنى، تتحول الدورية إلى أداة لتنسيق القرار المحلي تحت إشراف الدولة المركزية، ضمانًا للنجاعة، ولكن أيضًا لضبط الإيقاع السياسي والمالي في ظرف دقيق.

جيل Z في الخلفية

في ظل خروج جيل جديد من المغاربة إلى الشارع، رافعًا شعارات العدالة الاجتماعية والكرامة وفرص العمل، تأتي الدورية لتتحدث بلغة تقنية عن التشغيل والتعليم والصحة والماء.

لكن خلف هذه المفردات رسالة تهدئة ناعمة: الدولة تسمع وتتحرك، ولكن وفق منطق المؤسسات لا منطق الشارع. إنها محاولة لقول إن الإصلاح قادم، ولكن من داخل النسق لا من خارجه.

من الترشيد المالي إلى إعادة توزيع النفوذ

حين تطالب الدورية بالتحكم في النفقات وتجاوز “مظاهر التبذير”، فإنها لا تتحدث فقط عن الاقتصاد المالي، بل عن إعادة ضبط علاقات النفوذ داخل الجماعات الترابية. فالمصاريف المتعلقة بالحفلات، المؤتمرات، والتنقلات، لطالما كانت أحد مفاصل النفوذ المحلي وشبكات الولاء السياسي. بالتالي، يمكن قراءة هذه التوجيهات كجزء من محاولة تحديث الحقل المحلي وتقليص الريع الصغير استعدادًا لمرحلة جديدة من الحكامة والرقابة.

خلفية قانونية لتمهيد سياسي

إشارات الوزير إلى القوانين الجبائية (14.25 و47.06 و69.19) تكشف عن مسعى لبناء “عقد مالي جديد” بين المواطن والجماعة.

لكن هذا التحول يحمل مفارقة واضحة: من جهة، يسعى إلى ترسيخ الشفافية وتوسيع الموارد؛ ومن جهة أخرى، قد يخلق توترات اجتماعية محلية في ظل ضعف القدرة الشرائية. بكلمات أخرى، الدولة تدفع نحو المسؤولية الجبائية دون أن تمنح الجماعات هامشًا كافيًا للمبادرة السياسية.

لغة محسوبة: مزيج من التحذير والطمأنة

الخطاب الإداري للدورية يجمع بين التحفيز والانضباط:

“احترام الآجال القصوى للتأشير” يقابله “تشجيع على تسريع المشاريع ذات الأثر الملموس”.
إنها لغة التحكم الهادئ، تقول الكثير من دون أن ترفع الصوت، وتطمئن القصر بأن وزارة الداخلية تمسك بخيوط المرحلة، وتطمئن الرأي العام بأن الإصلاح يسير وفق الخطة الملكية.

الخلاصة: الدولة تردّ بلغة الأرقام

في مواجهة غضب الشارع، لا ترفع الدولة شعارات سياسية، بل تردّ بلغة الميزانيات والبرمجة المالية. دورية لفتيت تمثل هذا التحول بامتياز: خطاب إداري ظاهريًا، لكنه سياسي في عمقه. إنها إعلان عن إرادة الدولة في تجديد أدواتها، لكن السؤال الأهم يبقى مفتوحًا: هل يكفي تحديث الإدارة لمجاراة تحولات المجتمع؟ وهل يمكن للغة الأرقام أن تُقنع جيلًا يتحدث بلغة القيم والكرامة؟

خلاصة الرأي:
ما فعله لفتيت هو تثبيت الإيقاع في لحظة اضطراب.لكن المغرب يدخل زمنًا جديدًا لا يكفي فيه ضبط الميزانية، بل يتطلب ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع على إيقاع جيلٍ تغيّر جذريًا.