لقي ثلاثة أشخاص مصرعهم يوم الثلاثاء، اختناقا بثاني أكسيد الكربون، داخل بئر لاستخراج الفحم الحجري مستغل من قبل إحدى التعاونيات بمنطقة غابوية كائنة بجماعة لعوينات بإقليم جرادة، شمال شرق المغرب.
و نقل الإعلام المحلي عن سلطات الإقليم، قولها أنه جرى انتشال جثت الضحايا الثلاث الذين فارقوا الحياة داخل البئر.
وأفاد بيان لوزارة الداخلية بأن العمال الثلاثة توفوا اختناقا بثاني أكسيد الكربون داخل البئر التي تديرها إحدى التعاونيات المؤسسة بصفة قانونية.
وأضاف البيان أن السلطات انتقلت إلى المكان فور إبلاغها بالحادث لمحاولة “إغاثة الأشخاص الثلاثة المحاصرين (52 و44 و43 سنة)، إلا أن المجهودات باءت بالفشل، إذ جرى انتشال جثت الضحايا الثلاث الذين فارقوا الحياة داخل البئر”.
و تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو للحادث المأساوي، مصحوبا بتساؤلات عن المدى الذي يجب أن تصل إليه الفواجع ليتم إقرار بديل اقتصادي للسكان ينجيهم من شبح الموت الذي يحوم حول آبار استخراج الفحم، لا سيما وأن المغرب يعيش على وقع أزمة طاقوية حادة، في ظل تسيير عشوائي للحكومة الممتالية التي فشلت في توفير الحاجيات الطاقوية لسكان العديد من المناطق، لا سيما مادة الغاز.
جرادة مدينة مغربية اشتهرت بمناجم الفحم الحجري، ويبلغ عدد سكانها نحو 43 ألفا، وعند إيقاف العمل بالمناجم انهار اقتصادها فحاولت الحكومة إيجاد بدائل، لكن السكان يؤكدون استمرار الأزمة، مما تسبب في اندلاع احتجاجات بارزة في 2018.
وفي 1927، اكتشف المحتل الفرنسي الفحم الحجري بها، وسارع لإنجاز التجهيزات الضرورية بالمدينة لبدء استغلال ثروات الفحم الذي تزخر به المدينة، وهو من نوع “الأنتراسيت” ويعد من أجود أنواع الفحم الحجري في العالم.
ومع مرور الأعوام، بدأت طبقة اليد العاملة تتسع، وكبرت المدينة، حيث شكلت مناجم جرادة فرصة للعمل بالنسبة لعشرات آلاف العمال من مختلف مناطق المغرب.
لكن كل شيء تغير مع قرار الحكومة المغربية إغلاق تلك المناجم عام 2001، بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، وتعهدت بتوفير بدائل اقتصادية لسكان المدينة، لكن السكان يؤكدون أن شيئا من ذلك لم يحدث، علما بأن المناجم كانت العمود الفقري لاقتصاد المدينة، ومع انهياره انهار كل شيء.
بسبب ذلك تعاني جرادة من نسبة بطالة مرتفعة، وذلك ما دفع الشباب للخروج منها بحثا عن العمل داخل المغرب وخارجه، ومن اضطر للبقاء، فقرر الاشتغال في مهن معيشية بسيطة أغلبها دكاكين تجارية متواضعة.
كما لجأ بعض الشباب أيضا للبحث عن الفحم الحجري بطرق غير نظامية، عبر حفر آبار تقليدية في ضواحي المدينة، يطلق عليها محليا اسم “الساندريات”، وهي التي تسببت في اندلاع احتجاجات كبيرة في 2018 حظيت بتغطية إعلامية دولية.
احتجاجات
العمل “بالساندريات” في جرادة كان دوما محفوفا بالمخاطر، إذ إن الشباب العاطل المنحدر من عائلات تعاني من فقر مدقع يلجؤون لحفر آبار بطرق بدائية، يتراوح عمقها بين خمسين وثمانين مترا، ثم عند الوصول لطبقة الفحم يبدؤون الحفر بشكل عرضي متتبعين خطوط الفحم، وهو ما يتطلب منهم محاولة “تثبيت” طبقات الأرض المحفورة بجذوع الأشجار التي يقطعونها من الغابة المجاورة، أما الإضاءة فيلجؤون للشموع التي تحرق ما تبقى من أوكسجين داخل أعماق الأرض المظلمة.
وبسبب كل ذلك، لقي عاملون “بالساندريات” مصرعهم في حوادث مؤلمة على مدى سنوات طويلة، بينها انهيار طبقات الأرض عليهم، أو تفجر المياه الجوفية، بالإضافة إلى الأمراض التنفسية العديدة التي سببها استنشاق الغازات السامة بباطن الأرض، وغبار الفحم الحجري الذي يتسبب في مرض السحار السيليسي أو السيليكوزيس (Silicosis)، وهو مرض رئوي سببه استنشاق جسيمات غبار ثنائي أوكسيد السيليكون وغازات أخرى تؤدي إلى التهابات حادة بالرئة التي تفشل في أداء وظيفتها مع مرور الوقت.
ويعتبر هذا المرض القاتل السبب الرئيسي في وفيات الذين عملوا بمناجم المدينة بشكل نظامي قبل إغلاق المناجم، حيث إن نسبة من نجح منهم في الوصول لسن التقاعد وهو على قيد الحياة قليلة جدا، ولهذا السبب يصف السكان جرادة بأنها “مدينة الأيتام والأرامل”.
وفي 22 ديسمبر/كانون الأول 2017، اندلعت احتجاجات كبيرة بالمدينة إثر وفاة أخوين غرقا داخل إحدى “الساندريات”، وظلا داخلها ساعات طويلة قبل أن ينجح رفاقهما في انتشال جثتيهما.
واستمرت الاحتجاجات عدة الأيام، وقدم المحتجون عدة مطالب؛ بينها ضمان بدائل اقتصادية لتشغيل الشباب، وتنفيذ ما تعهدت به الدولة عقب إغلاق المنجم عام 2001، إلى جانب فك العزلة عن المدينة عبر فتح طرق، ومراجعة فواتير الماء والكهرباء، وإنشاء مدارس وملحقة جامعية، ودعم الفلاحين الصغار بالمحافظة، وتعزيز البنية التحتية، وتحسين المرافق الخدمية.
وأعلنت السلطات المغربية في 16 يناير/كانون الثاني 2018 خطة طارئة لتحقيق مطالب السكان، وتهدف الخطة -بحسب وكالة الأنباء المغربية الرسمية- إلى “الاستجابة للمطالب العاجلة لسكان إقليم جرادة”، وتشمل فاتورتي الماء والكهرباء، وإحداث فرص عمل ومراقبة استغلال مناجم الفحم المتهالكة، وتدهور البيئة وتعزيز خدمات الصحة.
كما تشمل الخطة مشروعات من شأنها توفير فرص عمل، بينها إنشاء محطة حرارية خامسة بجرادة، ومنح أولوية التوظيف لقاطني المنطقة، لكن من دون تحديد موعد بدء تنفيذ تلك الخطة.