غاز البوطان بين تحيين الأسعار وتكلفة الدعم: هل دخلنا مرحلة إعادة هيكلة غير معلنة؟

0
303

دخل حيز التنفيذ، في 29 ماي 2025، قرارٌ جديد صادر عن وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح، يقضي بتغيير وتحيين أسعار نقل غاز البوطان بين أماكن التزويد ومراكز التعبئة. هذا القرار، الذي حمل الرقم 1149.25، وجرى اعتماده بعد استطلاع رأي اللجنة المشتركة بين الوزارات للأسعار، يبدو في ظاهره تقنيًا وإجرائيًا. غير أن تمحيص خلفياته يفتح الباب لسؤال أوسع: هل يشكّل هذا التحيين مقدمةً لإعادة هيكلة الدعم الطاقي بالمغرب، في سياق الضغوط المالية المتزايدة ومتغيرات السوق الدولية؟

من المحمدية إلى بزو: أرقام تنقل… ولكنها تُفصح عن ما هو أعمق

ينص الملحق الثالث من القرار المحدث على أن تكلفة نقل الطن-المتر من غاز البوطان من مدينة المحمدية – قلب صناعة الغاز المغربي – إلى مركز التعبئة ببزو تُقدّر بـ266 درهما دون احتساب الرسوم. أما التكاليف بين المحمدية ومديونة، فقد حُدّدت بـ27 درهما فقط. ولعل الفرق الشاسع بين هذين الرقمين يشي بتفاوتات جغرافية واقتصادية في البنية التحتية، ويعيد إلى السطح السؤال القديم الجديد حول العدالة المجالية في توزيع كلفة الدعم والخدمات الأساسية.

لكن اللافت أكثر هو التنصيص على تكلفة النقل من ميناء طنجة المتوسط – المنصة الاستراتيجية المرتبطة بشبكات التجارة الدولية – إلى مركز سوق الأربعاء، والتي بلغت 169 درهما للطن متر. هذه الأرقام، وإن بدت محاسباتية، تعكس دينامية أعمق: هل نحن أمام تمهيد لإدخال مبدأ “التكلفة الحقيقية” في تسعير المواد المدعّمة؟

سياق اقتصادي مضغوط… وصندوق المقاصة في عين العاصفة

ضمن قانون مالية 2025، خُصّص أكثر من 16.5 مليار درهم لصندوق المقاصة، خصصت أساسًا لدعم غاز البوطان والسكر والدقيق الوطني. ورغم ارتفاع سعر قنينة غاز البوطان من فئة 12 كلغ بـ10 دراهم في ماي 2024، فإن الدولة لا تزال تتحمل عبئًا ماليًا كبيرًا لتثبيت الأسعار في السوق الداخلية.

لكن، إلى متى سيستمر هذا النهج؟ فوفقًا لتقارير سابقة صادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية، تتجاوز تكلفة دعم قنينة واحدة من فئة 12 كلغ 80 درهما في بعض الأحيان، خصوصًا مع التقلبات الحادة في الأسعار العالمية المرتبطة بالأزمات الجيوسياسية (أوكرانيا، الشرق الأوسط، تأرجح النفط…).

أليس تحيين مصاريف النقل إذن، خطوة أولى نحو مراجعة شاملة لنظام الدعم، عبر بوابة تقنية؟

بين الإصلاح الصامت والخوف من ارتدادات شعبية

إذا كان القرار الصادر حديثًا قد استند إلى نصوص تنظيمية سابقة تعود لحكومات عبد الإله بنكيران ثم العثماني، فإن تفعيله في عهد حكومة عزيز أخنوش لا يخلو من دلالات سياسية: فرئيس الحكومة الحالي، القادم من عالم المال والأعمال، يجد نفسه محاطًا بتحديات معقدة: الحفاظ على التوازنات المالية، الاستجابة للمؤسسات الدولية المانحة، وفي الوقت ذاته تفادي أي غضب شعبي قد يُلهب الشارع.

فهل يتجه المغرب، مثلما حصل في بلدان مثل مصر أو تونس، إلى تفكيك منظومة الدعم بشكل تدريجي عبر إجراءات جزئية تمهيدية؟ أم أن الدولة عازمة على التوفيق بين دعم الفئات الهشة من جهة، وتحقيق “عدالة اقتصادية” في توزيع كلفة النقل والخدمات من جهة ثانية؟

تجربة مقارنة: ما الذي تُخبرنا به السياسات الدولية؟

في تجارب عدة، اعتمدت حكومات أمريكا اللاتينية وآسيا نموذجًا يقوم على توجيه الدعم مباشرة للفئات المستهدفة، عوض دعم المواد. البنك الدولي نفسه أوصى المغرب منذ سنوات بتبني هذا التوجه، من خلال ما يُعرف بـ”التحويلات المالية المباشرة المشروطة”. هل هذا هو السيناريو المقبل في المغرب، حيث يتحول المواطن من مستفيد غير مباشر إلى متلقي دعم نقدي مباشر مقابل رفع أسعار السوق؟

خلاصة تحليلية: التحيين ليس مجرد تحديث للأرقام… بل إعادة طرح لسؤال العدالة الطاقية

في الظاهر، قرار وزيرة المالية يتعلق فقط بتحيين أسعار نقل غاز البوطان. لكنه في العمق، يمثّل إشارات أولى لتحولات قد تكون جذرية في سياسة الدعم، وربما تمهيدًا لمرحلة “ما بعد المقاصة”. وبين من يرى في هذا خطوة عقلانية لتقليص العجز، ومن يخشى من آثار اجتماعية محتملة، يبقى السؤال الأساسي مطروحًا:

هل نحن أمام إصلاح تقني هادئ، أم بداية “تحرير صامت” للأسعار؟

ولأن الجواب لا يوجد فقط في نصوص القرارات، بل في تفاعلات الشارع وأرقام الفاتورة العمومية، فإن المرحلة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد وجهة هذا المسار.