فرحات مهني وقرار الأمم المتحدة: حين تنتصر الدبلوماسية الملكية على جغرافيا الاستعمار القديم، ويستعيد الشعب القبائلي حقه في الاستقلال عن الجزائر

0
134

فرحات مهني بين صحراء المغرب وجبال القبائل: حين يصحّح التاريخ أخطاءه القديمة

لم يكن تصريح فرحات مهني، زعيم حركة استقلال منطقة القبائل ورئيس حكومتها المؤقتة، مجرد موقف عابر على منصّات التواصل. بل بدا كأنّه اعتراف مزدوج: اعتراف بانتصار الدبلوماسية الملكية المغربية في ملف الصحراء، واعتراف آخر بعمق المأزق التاريخي الذي تعيشه الجزائر في علاقتها بمكوّناتها الوطنية.

فحين وصف مهني قرار مجلس الأمن الأخير بشأن الصحراء المغربية بأنه “تصحيح لخطأ تاريخي”، لم يكن يقرأ الحدث من زاوية التضامن السياسي فحسب، بل من زاوية المقارنة التاريخية بين مسارين متعاكسين: مسار استعاد فيه المغرب سيادته على أراضيه بفضل رؤية استراتيجية قادها الملك محمد السادس، ومسار فقدت فيه منطقة القبائل حقها في تقرير مصيرها تحت وصاية نظام لم يتحرر بعد من رواسب الدولة العسكرية.

التحليل العميق لتصريحات مهني يكشف أن الرجل لا يتحدث فقط عن الجنوب المغربي، بل عن خريطة جديدة للشرعية في شمال إفريقيا. فحين يعترف زعيم القبائل بسيادة المغرب على صحرائه، فهو في الواقع يعيد تعريف مفهوم “التحرر” في المنطقة: تحررٌ لا يمرّ عبر الانفصال أو الخطابات الثورية، بل عبر الشرعية المؤسساتية والرؤية الملكية البعيدة المدى التي استطاعت أن تجعل الأمم المتحدة نفسها تتحدث اليوم بلغة المغرب، لا بلغة خصومه.

لكن مهني، وهو يستحضر في منشوره على “إكس” ذكرى معركة إيشيريدن عام 1857، بدا وكأنه يوجّه رسالة مزدوجة: فالتاريخ الذي أعاد للمغرب صحراءه، لم يُنهِ بعد استعمار القبائل داخل الجزائر. لذلك دعا إلى إغلاق ما سمّاه “الفتحة الاستعمارية” التي ما زالت تحرم الشعب القبائلي من سيادته على ذاته، معلنًا عن موعد رمزي جديد — الرابع عشر من دجنبر 2025 — ليكون لحظة ميلاد “دولة القبائل الحرة”.

أليس من المفارقة أن يتحدث زعيم من الجزائر عن “الاستعمار الداخلي” في بلد رفع شعار التحرير منذ 1962؟
أليست دعوته إلى تقرير مصير القبائل انعكاسًا لأزمة الشرعية التي طالما حاول النظام الجزائري إخفاءها خلف خطاب دعم “تقرير المصير” في الصحراء المغربية؟

فرحات مهني، من منفاه الباريسي، لا يخاطب الجزائر وحدها، بل يُعيد توجيه البوصلة الجيوسياسية للمنطقة. فحركته، التي صوّت مؤتمرها الاستثنائي في باريس بالإجماع لصالح خيار الاستقلال، تضع الدولة الجزائرية أمام مأزق تاريخي مزدوج: كيف تدافع عن حق تقرير المصير خارج حدودها، وهي ترفضه داخلها؟ وكيف يمكن لنظام يهاجم شرعية المغرب في الصحراء أن يتجاهل شرعية القبائل في وطنهم؟

لقد استطاع مهني، من خلال رمزية خطابه، أن يربط بين التحرر والسيادة بوصفهما مسارين متكاملين: الأول جسّده المغرب في صحرائه من خلال الدبلوماسية الملكية الهادئة، والثاني يحاول أن يجسّده القبائل من خلال نضالهم من أجل الاعتراف والكرامة.

هنا، يتقاطع التاريخ مع السياسة، وتتحول الصحراء إلى مرآة تُرى فيها كل التناقضات الجزائرية. فالانتصار المغربي في الأمم المتحدة لم يكن مجرد تصويت أو قرار، بل تحول في ميزان الشرعية الإقليمية، كشف أن من يملك رؤية واضحة وثقة في مشروعية قضيته، هو من يكتب التاريخ، لا من يكتفي بالصراخ على هامشه.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يدرك النظام الجزائري أن الاعتراف القبائلي بالمغرب هو أول تصدّع داخلي في جدار السردية الرسمية؟ وهل يمكن أن يتحول التاريخ، مرة أخرى، إلى أداة لتصحيح أخطاء الجغرافيا السياسية، كما قال مهني نفسه؟

ما بين صحراء استعادها المغرب وجبال تبحث عن هويتها في الجزائر، يبدو أن القرن الواحد والعشرين سيُعيد رسم خرائط شمال إفريقيا، لا بالقوة، بل بالوعي. وعيٌ ملكي مغربي رسّخ مفهوم الدولة ذات السيادة والامتداد التاريخي، ووعيٌ قبائلي بدأ يكتشف أن “التحرر الحقيقي” ليس ما تقوله الشعارات، بل ما تعترف به الأمم.