فرنسا تعترف بدولة فلسطين: تحول رمزي أم محاولة لإعادة التوازن في نظام دولي مختل؟

0
125

في خطوة وُصفت بالتاريخية من قبل البعض والمثيرة للجدل من قبل آخرين، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستعترف رسميًا بدولة فلسطين خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.

هذا الإعلان، الذي يأتي في لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، يطرح تساؤلات متعددة: هل نحن أمام إعادة تموضع حقيقي لفرنسا في الشرق الأوسط؟ أم مجرد تحرك رمزي في مواجهة مأزق غربي متزايد في إدارة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟

الاعتراف الرمزي… ومأزق الشرعية المفقودة

من منظور القانون الدولي، فإن الاعتراف بدولة فلسطين ليس جديدًا: أكثر من 140 دولة فعلت ذلك، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، غير أن الاعتراف الفرنسي يحمل وزنًا خاصًا، باعتبارها أول قوة نووية وغربية كبرى تخطو هذه الخطوة. وهو ما يمنح القضية الفلسطينية دفعة دبلوماسية طال انتظارها.

لكن المفارقة تكمن في أن هذا الاعتراف يأتي في ظل شلل فعلي للمجتمع الدولي، وفقدان أدوات الضغط الفاعلة على إسرائيل. ما جدوى الاعتراف، إذا كان الواقع على الأرض يسير في الاتجاه المعاكس، مع تصاعد الاستيطان، وتكريس الاحتلال، وتدهور غير مسبوق للوضع الإنساني في غزة والضفة الغربية؟

السياق الأوروبي المتغير: من البيانات إلى المبادرة؟

الإعلان الفرنسي ترافق مع تصريحات لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الذي وصف الوضع في غزة بـ”الكارثي وغير القابل للدفاع عنه”، معلنًا عن مشاورات طارئة مع برلين وباريس لبحث سبل وقف إطلاق النار وضمان تدفق المساعدات. كما لمح إلى أن وقف النار سيكون بوابة محتملة للاعتراف بدولة فلسطين.

هذا التناغم الأوروبي الظاهري قد يؤشر إلى بداية تحوّل في السياسة الغربية التي طالما كانت رهينة “الفيتو الأمريكي” والتوازنات الداخلية لإسرائيل. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين الخطاب والممارسة، خصوصًا في ظل ضعف الإرادة السياسية الأوروبية في فرض عقوبات أو شروط جدية على الاحتلال الإسرائيلي.

ردود الأفعال: انقسام حاد بين القانوني والإيديولوجي

في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي عنيفًا ومشحونًا بالتحدي. نائب رئيس الوزراء ياريف ليفين وصف القرار الفرنسي بأنه “دعم مباشر للإرهاب”، بينما دعا وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش إلى “الرد الفوري عبر ضم الضفة الغربية”. هكذا يتم مرة أخرى توظيف ملف الإرهاب كأداة لشرعنة خطوات أحادية توسعية، في تجاهل صارخ للقانون الدولي.

هذا الخطاب الإسرائيلي يكشف تناقضًا جوهريًا: من جهة، تطالب تل أبيب بالاعتراف الدولي وتصدّر نفسها كديمقراطية تحترم القوانين، ومن جهة أخرى ترفض أي اعتراف بفلسطين وتواصل فرض وقائع استعمارية على الأرض.

ماكرون بين الضغط الداخلي والرهان الإقليمي

القرار الفرنسي لا يمكن فصله عن ضغوط داخلية وخارجية متقاطعة. داخليًا، يتعرض ماكرون لانتقادات حادة من اليسار والجاليات المسلمة بسبب موقفه “المتردد” من العدوان على غزة. وخارجيًا، تزايدت الانتقادات لموقف فرنسا في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث ينظر إليها كشريك غير موثوق.

كما أن السعودية، بحسب تصريحات حسين الشيخ، لعبت دورًا في دفع فرنسا لاتخاذ هذا القرار، ما يشير إلى تقاطع مصالح عربية-غربية جديدة حول مسألة الاعتراف، ربما كبديل لحل الدولتين الذي يترنح تحت ركام غزة والضفة.

مأساة غزة: خلفية إنسانية أم محفّز سياسي؟

لا يمكن عزل قرار فرنسا عن المأساة المتفاقمة في غزة. أكثر من 59 ألف شهيد، معظمهم نساء وأطفال، وفق أرقام وزارة الصحة في القطاع، في مقابل 1219 قتيلًا إسرائيليًا في هجوم السابع من أكتوبر. دمار بلغ 70% من البنى التحتية، وأزمة مجاعة دفعت الأوروبيين إلى إعادة النظر في دعمهم “اللامشروط” لإسرائيل.

لكن، هل تمثل هذه المآسي حافزًا جادًا لتغيير السياسات، أم مجرد ورقة تستخدمها القوى الغربية لترميم صورتها الأخلاقية في المنطقة؟

خاتمة: الاعتراف ليس نهاية الطريق… بل بدايته

بين الاعتراف الفرنسي والرد الإسرائيلي، يبدو أن المعركة انتقلت من ساحة الحرب إلى ساحة الرموز الدبلوماسية. ومع أن الاعتراف بدولة فلسطين لا يغيّر الواقع القانوني فورًا، إلا أنه يفرض معادلة جديدة في ميزان الشرعية.

ويبقى السؤال الكبير: هل ستكون فرنسا قادرة على ترجمة موقفها السياسي إلى التزام قانوني عملي؟ أم ستبقى حبيسة التوازنات الأوروبية والأمريكية؟
وفي الحالتين، فقد تم كسر حاجز نفسي ودبلوماسي، والأيام القادمة ستكشف إن كنا أمام تحول جذري، أم أمام وهم جديد من “السلام الرمزي”.