في خطوة تحمل من الرمزية السياسية بقدر ما تحمل من الفعل الدبلوماسي العملي، افتتحت فرنسا مركزًا رسميًا للخدمات القنصلية بمدينة العيون، في قلب الصحراء المغربية. وبينما قد يبدو الخبر في ظاهره مجرد توسعة إدارية لخدمات التأشيرات، إلا أن أبعاده تتجاوز البعد القنصلي نحو رسائل استراتيجية موجهة إلى الداخل المغربي وإلى القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الجزائر.
قراءة سياسية لما وراء القرار الفرنسي
لا يمكن فصل هذه الخطوة عن السياق الأوسع الذي تمر به قضية الصحراء المغربية، والتي باتت تشكل محورًا حيويًا في إعادة رسم خريطة التوازنات الإقليمية في شمال إفريقيا. فتح قنصلية أوروبية في مدينة العيون، وبحضور السفير الفرنسي كريستوف لوكورتييه، هو بمثابة تأكيد صريح وفعلي على أن فرنسا لم تعد تكتفي بمواقف دبلوماسية عامة، بل تتحرك بخطوات ملموسة لتكريس اعترافها بمغربية الصحراء على الأرض، من خلال تمثيل رسمي مباشر في الأقاليم الجنوبية.
تأتي هذه الخطوة امتداداً لرسالة التهنئة التي بعث بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس في يوليو الماضي، والتي تضمنت دعماً واضحاً لمغربية الصحراء. فهل تتحول هذه المؤشرات إلى موقف فرنسي رسمي ومعلن لا لبس فيه، يُضاف إلى قائمة الدول الداعمة صراحة لمقترح الحكم الذاتي المغربي؟
رسائل ضمنية إلى الجزائر: الصحراء لم تعد ورقة ضغط
لا يخفى أن افتتاح المركز القنصلي في العيون يُعد رسالة مباشرة إلى الجزائر، مفادها أن سياسة التصعيد واختلاق الأزمات التي تنتهجها لن تُغير من ثوابت الموقف الفرنسي. بل إن باريس، وهي توازن بين مصالحها الإقليمية وتاريخها الاستعماري المعقّد في المنطقة، بدأت تدريجياً تتخلى عن الحذر الرمادي في التعامل مع ملف الصحراء.
فمنذ إعلان الولايات المتحدة دعمها لمغربية الصحراء، تزايدت الضغوط على العواصم الأوروبية لاتخاذ مواقف مماثلة، ما دفع إسبانيا وألمانيا إلى مراجعة حساباتهما، واليوم تتحرك فرنسا في الاتجاه ذاته، ولكن وفق ما يُعرف بدبلوماسية “الخطوة الذكية”: قرارات عملية تحمل رسائل سياسية دون أن تصطدم بالخطاب المعلن لفرنسا كوسيط تقليدي في المنطقة.
هل تتحول العيون إلى عاصمة دبلوماسية إقليمية؟
افتتاح مراكز قنصلية في العيون ليس مجرد إجراء إداري لتخفيف الضغط عن السفارات، بل هو تطبيع دبلوماسي مع السيادة المغربية على هذه الأقاليم، وهو ما يؤسس لواقع جديد يجعل من العيون مركز ثقل دبلوماسي واستثماري، ومرآة لحضور دولي آخذ في التوسع لصالح المغرب.
وبمشاركة والي الجهة عبد السلام بكرات في مراسم الافتتاح، فإن الحدث لم يكن بروتوكولياً بقدر ما كان إعلاناً عن انخراط الدولة المغربية بكل مؤسساتها في مواكبة هذا التحول الاستراتيجي، والذي يُفهم ضمنياً كاستكمال لمعركة استرجاع الاعترافات الدولية التي يقودها المغرب منذ عقود.
في العمق: لماذا الآن؟
توقيت الخطوة الفرنسية يطرح أسئلة حيوية:
-
هل تستبق فرنسا تحولات مقبلة في مجلس الأمن بشأن ملف الصحراء؟
-
وهل تسعى باريس إلى تعزيز حضورها في المغرب لموازنة التوسع الأميركي والإسباني في المنطقة؟
-
وهل يمثل هذا التوجه جزءاً من إعادة تموضع استراتيجي لفرنسا في إفريقيا، في ظل فقدان نفوذها في دول الساحل والغرب الإفريقي؟