فرنسا والجزائر: إعادة ترتيب أولويات الهجرة وسط تحديات تاريخية ودبلوماسية

0
122

بعد فترة من الجمود، عاد ملف الهجرة بين فرنسا والجزائر ليحتل موقعًا بارزًا على جدول الأولويات السياسية والدبلوماسية، مع إعلان وزير الداخلية الفرنسي، لوران نونيز، عن بدء جولة جديدة من المشاورات الثنائية. تركز هذه المشاورات على كيفية إعادة تنظيم عمليات الترحيل للرعايا الجزائريين المقيمين في فرنسا، إلى جانب إطلاق دراسة معمقة لاتفاقية 1968 التي ظلت المرجع القانوني الأساسي لعلاقات الهجرة بين البلدين لعقود.

وقال نونيز في تصريحات لـلو جورنال دو ديمانش إن الهدف من هذه المشاورات ليس معالجة حالات فردية، بل بلورة إطار تعاون مستدام بين البلدين، يسمح بتنفيذ عمليات الترحيل وفق قواعد واضحة ومنتظمة. وأوضح الوزير أن وفدًا فرنسيًا زار الجزائر مؤخرًا ضمن التحضيرات لهذا الحوار، مع احتمال قيامه بزيارة رسمية لتعزيز المسار التفاوضي، لكنه أقر بأن السلطات الجزائرية لم تستأنف بعد استقبال المرحلين، وهو ما يوضح أن التحديات لا تقتصر على الجانب الإداري فحسب، بل تشمل أبعادًا سياسية ودبلوماسية حساسة.

في الوقت نفسه، تعمل باريس على مراجعة اتفاقية 1968، في سياق نقاش داخلي حول مدى صلاحية نص يعود إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي منح الجزائريين حقوقًا خاصة في العمل والإقامة ولمّ الشمل الأسري. ويمثل هذا التوجه محاولة لتجنب صدام دبلوماسي محتمل مع الجزائر، بينما يسعى البرلمان الفرنسي إلى تشديد السياسة الهجرية عبر توصيات متتالية.

تاريخيًا، جاءت اتفاقية 1968 لتنظيم تدفق اليد العاملة الجزائرية إلى فرنسا، بعد ست سنوات من استقلال الجزائر، ومنحتها امتيازات لم تكن متاحة لمهاجرين من جنسيات أخرى، مستندة إلى اتفاقيات إيفيان 1962 التي أنهت الاستعمار الفرنسي وضمنت حرية تنقل الجزائريين بين البلدين. ومع مرور السنوات، شهدت الاتفاقية تعديلات متعددة، أبرزها تعديل 2001 الذي وسّع حقوق الجزائريين المتزوجين من فرنسيين، ومنح أفراد عائلاتهم حقوق التعليم والعمل والإقامة، إضافة إلى تسهيلات للحصول على الجنسية.

اليوم، تعكس المشاورات الحالية محاولة فرنسية لتحقيق توازن دقيق بين الضغوط الداخلية المتزايدة لتشديد الهجرة، والحاجة إلى الحفاظ على علاقة دبلوماسية مستقرة مع الجزائر، خصوصًا في ظل المساعي الرامية لإعادة بناء الثقة بعد سنوات من الفتور. المشهد يظهر أن النقاش التقني حول الترحيل ومراجعة الاتفاقية هو مجرد بداية لمسار تفاوضي أوسع، قد يحدد مستقبل العلاقة بين البلدين في هذا الملف الحساس.

أبعاد سياسية وقانونية متشابكة

من زاوية السياسة الداخلية الفرنسية، يُنظر إلى اتفاقية 1968 اليوم على أنها نص قديم لم يعد يعكس الواقع الاجتماعي والاقتصادي الحالي، خصوصًا مع تزايد النقاش حول الهجرة والاندماج والمواطنة. بينما تدعو بعض الأطراف إلى إلغائها بالكامل، يرى آخرون أن مراجعة البنود بصورة دقيقة تتيح الحفاظ على التعاون مع الجزائر، وتجنب إشعال توترات دبلوماسية.

على الصعيد الجزائري، تمثل هذه المفاوضات اختبارًا لقدرة السلطات على إدارة ملف حساس يمس حقوق مواطنيها المقيمين في الخارج، ويعيد طرح مسألة السيادة الوطنية في استقبال رعاياها الذين صدرت بحقهم قرارات ترحيل. فالرفض الجزائري الحالي لاستقبال المرحلين يعكس مزيجًا من الحذر السياسي والاعتبارات الداخلية التي تتقاطع مع إرث الاستقلال والسياسة الداخلية في الجزائر.

إرث تاريخي وتأثير طويل المدى

الاتفاقية الفرنسية–الجزائرية لعام 1968 لم تكن مجرد نص تنظيمي للهجرة، بل وثيقة تاريخية محورية ترتبط بسياق ما بعد الاستعمار، وحاجات فرنسا الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، والضغوط الاجتماعية المرتبطة بالاندماج. كما شكلت الاتفاقية نقطة حساسة في العلاقات الثنائية، كونها أعطت الجزائريين حقوقًا استثنائية لم تكن متاحة لمهاجرين آخرين، مما جعلها دائمًا محورًا للجدل السياسي والقانوني.

التعديلات اللاحقة، خاصة تعديل 2001، عكست محاولة للتكيف مع واقع اجتماعي متغير، من حيث لمّ شمل الأسر وتسهيل الحصول على الجنسية، وإقامة مؤقتة قابلة للتجديد. ومع ذلك، تظل الاتفاقية اليوم محل نقاش حول مدى ملاءمتها للأوضاع الحالية، في ظل تزايد الضغوط السياسية في فرنسا، والحاجة إلى إدارة العلاقة مع شريك تاريخي حساس.

بين التقنية والسياسة: مرحلة اختبار العلاقة الثنائية

يبقى السؤال المركزي: هل يمكن للمشاورات التقنية حول الترحيل ومراجعة الاتفاقية أن تتحول إلى تفاهم سياسي مستدام؟ وما مدى قدرة الطرفين على تجاوز الجوانب الرمزية والتاريخية للملف؟ الجواب يعتمد على قدرة فرنسا والجزائر على التوفيق بين المصالح الداخلية والحاجة إلى إطار قانوني متجدد، مع مراعاة بعد العلاقات التاريخية والاعتبارات الدبلوماسية الراهنة.

في هذه المرحلة، يبدو أن باريس تسعى لتجنب خطوات أحادية قد تؤدي إلى توتر، بينما الجزائر تحافظ على موقفها الحذر، ما يجعل أي تقدم ملموس مرهونًا بقدرة الطرفين على إدارة الملف ضمن أفق تفاوضي طويل المدى، يحترم الحقوق والالتزامات المتبادلة.