فم الحصن بين التوجيه الملكي والواقع الترابي: حين تصرخ الجغرافيا طلبًا للإنصاف

0
78

في المغرب الآن، لا ننشر نصوص الآخرين كما هي، بل نعيد قراءتها وتحليلها وتفكيكها وإعادة تركيبها ضمن رؤيتنا التحريرية الخاصة، بحيث لا تكون مجرد نقل، بل موقفًا فكريًا وصحافيًا مستقلاً. ومن هذا المنطلق، نقرأ اليوم نداء الأستاذ الحسان القاضي حول العدالة المجالية بفم الحصن، لا بوصفه مطلبًا محليًا، بل كمرآة لمعضلة وطنية أوسع: سؤال التنمية المتوازنة في المغرب العميق.

التوجيه الملكي… البوصلة الغائبة في بعض المناطق

منذ الخطاب الملكي الذي دعا بوضوح إلى “إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، وخاصة مناطق الجبال والواحات”، والمغرب يعيش تحوّلًا في مفهوم التنمية: من منطق المشاريع المعزولة إلى رؤية العدالة الترابية.

لكن ما بين الرؤية والتطبيق، يظهر خلل بنيوي يجعل مناطق مثل فم الحصن خارج دائرة الأولوية، رغم رمزيتها الحدودية وموقعها الاستراتيجي بين الواحات والصحراء.

حين تتحول الهشاشة إلى قدرٍ جغرافي

فم الحصن ليست مجرد اسم على الخريطة، بل منطقة تحمل في تضاريسها تاريخًا من الصبر، وواقعًا من التهميش.

من نزيف الهجرة إلى ضعف النشاط الفلاحي وتراجع فرص الشغل، تعيش المنطقة تناقضًا صارخًا: غنى طبيعي وبشري مقابل فقر في السياسات العمومية.

تتوفر المنطقة على أراضٍ سلالية شاسعة، تمتد على أكثر من 114 ألف هكتار، لكنها لم تتحول بعد إلى رافعة اقتصادية حقيقية.

الضيعات النموذجية: مشروع تنموي مؤجل

منذ 2010، دافعت فعاليات مدنية محلية عن فكرة الضيعات النموذجية كخيار استراتيجي لإحياء الدورة الاقتصادية، وربط الشباب بالأرض، عبر زراعات تتلاءم مع المناخ الصحراوي وتثمين المنتوجات المحلية (كالتمور والنباتات العطرية والعلك).

ورغم وضوح المشروع وبساطته وواقعيته، لم يجد طريقه إلى التنفيذ، وكأن الزمن التنموي في فم الحصن يسير بإيقاع أبطأ من باقي الجهات.

ما يُطرح هنا ليس مجرد مطلب فئوي، بل سؤال عن نموذج التنمية ذاته: كيف يمكن الحديث عن عدالة مجالية إذا بقيت مناطق بكاملها تعيش على الهامش رغم غنى مؤهلاتها؟وأين يتجسد مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” إذا استمر الإنفاق دون أثر ملموس في حياة الساكنة؟

الإنصاف المجالي… من البنية إلى الإنسان

في قراءة “المغرب الآن”، العدالة المجالية لا تُقاس بعدد الكيلومترات من الطرق المعبدة، بل بمدى تمكين الإنسان من شروط الإنتاج والعيش الكريم. ولهذا، فإن مشروع فم الحصن، كما تصوّره الحسان القاضي، ليس مجرد حلم محلي، بل تصور تنموي بديل ينسجم تمامًا مع روح التوجيه الملكي الداعي إلى “إنصاف المجالات الهشة وإعادة الثقة في المؤسسات”.

إن تخصيص عشرة آلاف هكتار لإنشاء ألفي ضيعة نموذجية – تُمكّن أكثر من 1300 أسرة محلية وتخلق فرص شغل للشباب – ليس مجرد رقم، بل إعلان عن إمكانية بناء اقتصاد حدودي قائم على الكرامة والإنتاج لا على الإعانات.

ما بين الخطاب والفعل… مسؤولية مؤسساتية مشتركة

العدالة المجالية ليست شعارًا موسميًا، بل اختبار حقيقي لمدى التزام مؤسسات الدولة بروح الدستور والتوجيهات الملكية.فالمجال الحدودي لا يمكن أن يبقى خارج رهانات التنمية، خاصة وأنه يشكل خط الدفاع الأول عن التوازن الترابي والاجتماعي للمملكة. إن رهان فم الحصن هو ذاته رهان المغرب على ذاته: أن يُعيد بناء العلاقة بين الأرض والإنسان عبر نموذج جديد من العدالة التنموية.

خاتمة المغرب الآن

إن فم الحصن ليست قضية محلية، بل عنوان لسؤال وطني: كيف يمكن للعدالة المجالية أن تتحول من “توصية ملكية” إلى سياسة عمومية ناجعة؟
فما لم يُترجم الإنصاف المجالي إلى مشاريع واقعية في مثل هذه المناطق، ستظل الهوة قائمة بين خطاب التنمية وواقعها.

العدالة المجالية ليست مشروعًا تقنيًا، بل فعل إنساني عميق يعيد لكل منطقة حقها في أن تكون جزءًا من الحلم المغربي المشترك.