في المغرب: “الهدم أولاً ثم النقاش”… جرافات بلا حوار تمحو الذاكرة ولا تبني مدنًا

0
153

هدم بحي البحيرة: حين تُفجّر صرخات الذاكرة في وجه جرافات الدولة

الدار البيضاء – صباح الاثنين 15 يوليوز 2025، وبينما كانت المدينة تنبعث مع شمس صيفية دافئة، نزلت السلطات العمومية بثقلها في قلب المدينة القديمة، وتحديدًا بحي البحيرة، لتنفيذ عملية هدم مثيرة للجدل طالت إحدى البنايات المجاورة لعمارة عائلة المناضل الحاج علي المنوزي، أحد رموز اليسار الوطني في سبعينيات القرن الماضي.

وسط دهشة وذهول السكان، واحتجاج العائلة، بدأت جرافات مدعومة بعناصر من القوات العمومية تزيل ملامح حجرية من ذاكرة الدار البيضاء، في مشهد يطرح أسئلة عميقة حول العلاقة بين الدولة والمدينة، بين القانون والتراث، بين التنمية والهدم.

تفاصيل الحدث: قرار مفاجئ ومعارضة عائلية

في الليلة السابقة، توصل سكان البناية المجاورة لبناية المنوزي بإشعارات شفهية من أعوان السلطة تُفيد بضرورة الإخلاء الفوري. دون وثائق رسمية أو أمر مكتوب، تم إفراغ المكان على عجل، حيث بات عدد من الأسر ليلتهم خارج الجدران التي اعتادوها.

في الصباح، حضرت عائلة المنوزي إلى عين المكان، وحصلت مواجهة كلامية محتدمة مع قائد الملحقة الإدارية، احتجاجًا على الشروع في عملية الهدم دون توفر رخصة قانونية، ووسط تجاهل لخبرة قضائية سابقة تفيد بأن البناية “غير آيلة للسقوط”.

المادة 12 من قانون 94.12: هل تم احترام المسطرة؟

تنص المادة 12 من القانون رقم 94.12 المتعلق بمعالجة المباني الآيلة للسقوط وتنظيم عمليات الإخلاء، على أن الطعن في قرار الهدم أمام المحكمة الإدارية يوقف التنفيذ تلقائيًا إلى حين صدور حكم نهائي. وهو ما استندت إليه العائلة في شكاية وجهتها إلى وزير الداخلية والرأي العام الوطني، معتبرة ما جرى خرقًا واضحًا لمقتضيات القانون.

تُشير العائلة أيضًا إلى أن رئيسة المقاطعة الجماعية لسيدي بليوط استندت إلى خبرة غير دقيقة في تصنيف البناية كـ”آيلة للسقوط”، بينما الخبرة القضائية التي تتوفر عليها العائلة تؤكد سلامة البنية وتماسك الجدران.

من العمارة إلى الرمزية: هل يتم تهديم التاريخ بدل ترميمه؟

ليست هذه العمارة فقط مبنى إسمنتيًا في حي قديم، بل هي جزء من ذاكرة مناضلين وطنيين ساهموا في بناء المغرب الحديث، وعلى رأسهم الحاج علي المنوزي، الذي يعتبره كثيرون رمزًا للنضال والالتزام الديمقراطي.

تطرح هذه القضية تساؤلاً مشروعًا: هل نحن أمام سياسة حضرية تهدف إلى التحديث، أم إلى محو ما تبقى من علامات الذاكرة الشعبية؟

ففي الوقت الذي أطلقت فيه الدولة برامج كبرى كـ”الوكالة الوطنية للتجديد الحضري” (ANRUR)، التي تهدف إلى إعادة تأهيل الأحياء القديمة بدل هدمها، تعود من جديد ممارسات ترتكز على “الهدم أولاً ثم النقاش”، مما يُضعف ثقة المواطنين في نجاعة المؤسسات.

الخطوة القادمة: هل يتجه الملف نحو المحاكم الدولية؟

أعلن عبد الكريم المنوزي، أحد أفراد العائلة، في تصريح صحافي، أن العائلة تحتفظ بحقها في اللجوء إلى القضاء، بل إنها تدرس نقل الملف إلى جهات دولية إذا اقتضى الأمر، بالنظر إلى ما تعتبره “انتهاكًا صريحًا للقانون واعتداءً على حرمة التاريخ”.

وأضاف المتحدث أن العائلة “لا تعارض مشروع المحج الملكي”، بل “تدعو إلى حل عادل يحترم القانون وكرامة المواطن”، مؤكدًا أن ما جرى “لا ينسجم مع الرؤية الملكية في الإنصات لمغاربة الداخل والخارج”.




بين القانون والمصلحة العامة: كيف نوازن بين الأمن الحضري وحقوق السكان؟

الهدم كخيار في مواجهة البنايات القديمة قد يبدو، في ظاهره، إجراءً حمائيًا للسلامة العامة، خاصة في أحياء كـ”المدينة القديمة” بالدار البيضاء، التي تعاني من هشاشة عمرانية. لكن الواقع يُبرز أن المساطر القانونية في هذا المجال كثيرًا ما تُخرق أو تُنفذ بشكل متسرع، كما في حالة عمارة المنوزي، وهو ما يطرح مفارقة مزعجة: هل سلامة المواطن تبرر تجاهل القانون نفسه؟

في هذا السياق، القانون 12.94 كان واضحًا في إرساء آليات صارمة للتأكد من خطورة المباني، من خلال:

  • خبرة تقنية مستقلة ومعتمدة.

  • إشعار رسمي مكتوب للملاك والقاطنين.

  • ضرورة وجود رخصة هدم صادرة عن الجهات المختصة.

  • إمكانية الطعن أمام المحكمة الإدارية مع تعليق التنفيذ تلقائيًا.

ما حدث في قضية المنوزي، إن صحت معطيات العائلة، قد يُشكل نموذجًا لإشكاليات تدبير السلطة التقديرية للإدارة، التي تبرر قراراتها أحيانًا بـ”المصلحة العامة”، لكنها تُفرغ النص القانوني من مضمونه حين تُقصي حق المواطن في الدفاع.

مقارنة دولية: كيف تتعامل مدن العالم مع الذاكرة العمرانية؟

في العديد من العواصم الأوروبية، كـباريس، روما، أو لشبونة، يتم التعامل مع المباني القديمة ذات القيمة الرمزية بطريقة مختلفة. تُصنّف كـ”تراث حضري”، ويُمنع هدمها إلا في حالات قصوى مع تعويض مالي ومعنوي، بل في أحيان كثيرة تُحوَّل إلى فضاءات ثقافية أو مراكز للذاكرة.

في المكسيك والبرازيل، أطلقت المدن الكبرى برامج “إعادة تملك الذاكرة”، حيث تُشرك السكان في قرارات الترميم أو الترحيل، وتُوَفَّر بدائل سكنية قبل الإخلاء.

أما في المغرب، فـبرامج كرامة، والمحج الملكي، وتجديد المدينة القديمة، ورغم أهميتها التنموية، لا تزال تُعاني من ضعف إشراك المواطنين، وضعف التعويض، وغياب مقاربة تراثية حقيقية.

ماذا بعد؟ مقترحات لإنقاذ المدينة والذاكرة معًا

  • تصنيف المباني الرمزية (كعمارة المنوزي) كجزء من “الموروث النضالي الوطني”، وإخضاعها لمساطر استثنائية لا تسمح بهدمها إلا بقرار قضائي نهائي.

  • إعادة النظر في طريقة تدبير قرارات الهدم، باعتماد آلية ثلاثية: الإدارة – القضاء – المجتمع المدني.

  • فتح نقاش عمومي في المدن الكبرى حول سياسة التجديد الحضري، تُشارك فيه العائلات المتضررة، والنقابات، والمعماريون، ومؤرخو المدينة.

  • تخصيص صندوق تعويض معنوي لحالات الهدم التي تمس الذاكرة الجماعية (كتكريم العائلة، أو إدماج المعمار ضمن مشروع ثقافي).

خاتمة: جرافات بلا حوار لا تبني مدنًا، بل تمحو حكايات

تظل المدينة القديمة للدار البيضاء، مثلها مثل فاس أو تطوان أو الصويرة، كتابًا مفتوحًا على حكايات الناس والمقاومة والحب والخوف. حين تمر الجرافات دون إذن من التاريخ، فهي لا تهدم فقط الإسمنت، بل تُغلق فصولًا من هوية بلد.

هل ما زال الوقت كافيًا لإيقاف الهدم وإعادة كتابة فصول هذه القضية؟ أم أن المشهد، كالعادة، سيُطوى تحت عنوان “تحديث المدينة”.. لكن على أنقاض الذاكرة؟