في قلب الأطلس: بين عطش القرى ورؤية الإصلاح – مأساة المغرب المنسي تحت الضوء الصحفي

0
179

مشهد يومي في جبال بني ملال وأزيلال

مع كل صباح في قلب الأطلس المتوسط، يبدأ السكان رحلة شاقة بحثًا عن الماء. نساء يحملن الدلاء لمسافات طويلة، شيوخ يتركون بيوتهم عند الفجر، وأطفال يصطفون بصمت أمام الينابيع والآبار، في طوابير تنتظر شربة ماء تكفي يومهم.




هذه التفاصيل اليومية ليست مجرد صور معزولة، بل تعكس واقعًا مأساويًا يعيشه آلاف الأسر في القرى النائية، حيث البنية التحتية شبه معدومة، والخدمات الأساسية كالكهرباء والطرق والصحة والتعليم تظل حلماً بعيد المنال.

صيف 2025 لم يكن مختلفًا عن الأعوام السابقة، لكنه حمل معه صرخة أشد وقعًا. في دواوير آيت بوكماز، بوتفردة، إغرضان، وأوربيع، خرج السكان في مسيرات احتجاجية طالبوا بالماء والصحة والتعليم والطرق، مستنكرين تراكم سنوات من الإهمال. صور الأطفال الذين يقطعون مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مستوصف أو مدرسة، ونساء يحملن أطفالهن على ظهورهن أثناء جلب الماء، باتت تمثل صرخة واضحة تجاه الحكومة والسلطات المحلية.

مأساة متكررة وليست طبيعية فقط

المثير للانتباه أن أزمة الماء ليست نتيجة الجفاف وحده، بل هي انعكاس لقصور في تنفيذ المشاريع المحلية. مشاريع مائية معلقة أو غير مكتملة، طرق وعزلة مستمرة، وانقطاع الكهرباء والإنترنت، كلها عوامل تزيد من وطأة الأزمة اليومية.




رشيد المنصوري، برلماني عن دائرة دمنات، أكد أن الاحتجاجات الأخيرة لم تأت من فراغ، بل هي نتيجة تراكم سنوات من المشاريع التي لم تُنفذ على أرض الواقع. وفي المقابل، تثير هذه الأزمة التساؤلات حول كيفية استخدام الميزانيات المخصصة للماء والخدمات الأساسية، ومدى شفافية تنفيذها، وهو ما يجعل جزءًا من التنمية المغربية نظرية على الورق أكثر من كونها واقعًا ملموسًا.

“حق الماء” بين التفاوتات الجهوية والعدالة المجالية

محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أشار إلى أن أزمة الماء في الجبال تمثل انعكاسًا واضحًا لغياب العدالة المجالية. بالنسبة للسكان، لم يعد الحصول على الماء مطلبًا تنمويًا فحسب، بل قضية وجودية ترتبط بالكفاف اليومي للحياة. استمرار هذا الوضع يعكس عجز المؤسسات المنتخبة عن ضمان الحقوق الأساسية للسكان، مما يقلل من مشروعيتها الاجتماعية ويهدد السلم المحلي.

شهادات السكان من دواوير تنكارف وتفرت ونايت حمزة تُظهر مدى صعوبة الحياة اليومية: “نستيقظ قبل طلوع الشمس لنملأ الدلاء. الماء صار شغلاً يوميًا يستهلك حياتنا”، تقول إحدى النساء، بينما يشير شيخ مسن إلى أنهم يطالبون فقط بـ”ماء صالح للشرب وطريق يربطنا بالمستشفى”.

والمفارقة أن هذه القرى تعيش في عزلة شبه كاملة عن العالم، مع انقطاع الكهرباء في كثير من المنازل، وانعدام الإنترنت، في وقت تُعلن فيه الدولة عن مشاريع مثل “المغرب الرقمي”، لتظل مجرد شعارات بلا أثر ملموس.

قراءة سياسية وتحليلية

إصرار السلطات على نفي وجود قرى محرومة، كما جاء على لسان وزير الداخلية، يفتح الباب أمام جدل واسع حول مدى واقعية هذه التصريحات. فواقع الأطلس المتوسط يظهر بوضوح أن هناك آلاف الأسر التي تعاني يوميًا، وأن الأزمة ليست مجرد شكاوى عابرة، بل نتيجة تراكمات طويلة وغياب متابعة فعالة لمشاريع التنمية.

هذا الوضع يطرح تساؤلات حول آليات المراقبة والمحاسبة، وكيف يمكن للأموال والموارد المخصصة للقطاعات الأساسية أن تحقق تأثيرًا حقيقيًا على الأرض. فقد تتحول مشاريع الماء والتعليم والصحة إلى مؤشرات شكلية، بينما تبقى الحياة اليومية للسكان مليئة بالتحديات والمخاطر.

التجارب الدولية ودروس مستفادة

الدول التي نجحت في تزويد القرى النائية بالماء قدمت نموذجًا يُحتذى به. حفر الآبار، استغلال الينابيع الطبيعية، بناء شبكات توزيع مستدامة، توفير وحدات صحية متنقلة، وإنشاء مدارس جماعاتية، كلها عناصر ساهمت في تحسين جودة الحياة لسكان المناطق النائية.

المقارنة بهذه التجارب تظهر أن المغرب يمكنه تحسين الوضع إذا تم تفعيل مشاريع مائية متكاملة، ربطها بالبنية التحتية، وضمان إشراك المجالس المنتخبة والمجتمع المدني في متابعة التنفيذ.

الحلول المقترحة وإطار الإصلاح

  • إصدار قانون الجبال: إطار ملزم يضمن العدالة المجالية ويحدد مسؤوليات الجهات والمؤسسات.

  • تطوير البنية التحتية: إصلاح الطرق، توفير الكهرباء والإنترنت، وتوسيع النقل المدرسي.

  • مشاريع مائية مستدامة: حفر الآبار، استغلال الينابيع، بناء خزانات لتخزين المياه، توزيع عادل بين المناطق.

  • التعاون بين السلطات والمجتمع المدني: متابعة تنفيذ المشاريع، محاسبة المسؤولين، وضمان استمرارية الدعم للسكان.

الأثر الاجتماعي والاقتصادي

تأمين المياه ليس فقط قضية إنسانية، بل رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. القرى التي تعاني من نقص المياه والطرق والاتصال الرقمي تواجه صعوبة في تنمية الزراعة، وتشغيل الشباب، وتوفير فرص التعليم. بالمقابل، المشاريع المستدامة تفتح آفاقًا لتحسين جودة الحياة، وتعزيز العدالة المجالية، وتحفيز الاستثمار المحلي، وتقليل الهجرة من القرى إلى المدن.

الأمل في التغيير

رغم حجم المعاناة، تبقى هناك إمكانية للتغيير. تسليط الضوء الصحفي على أزمة المياه في الأطلس المتوسط يمكن أن يكون حافزًا لسرعة الإصلاحات، وتحفيز السلطات على متابعة المشاريع بشكل فعّال، وربط التمويل بالنتائج الملموسة.

القصص اليومية للنساء، والشيوخ، والأطفال، ليست مجرد معاناة شخصية، بل شهادة حية على الحاجة الملحة لتحقيق التنمية المتوازنة. إذا نجحت السلطات والمجالس المنتخبة في تنفيذ مشاريع متكاملة، فإن هذه القرى يمكن أن تتحول من مناطق منسية إلى نموذج للعدالة المجالية والتنمية المستدامة، يُحتذى به على الصعيد الوطني.

خاتمة:
المغرب المنسي في الأطلس المتوسط يعيش مأساة يومية حقيقية، بين عطش السكان وتراكم سنوات الإهمال. لكن مع رؤية واضحة، وقانون جبال ملزم، ومتابعة حقيقية من السلطات والمجتمع المدني، يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة لإرساء العدالة المجالية وتطوير البنية التحتية، ليصبح المغرب نموذجًا للتنمية المستدامة التي تراعي الإنسان قبل كل شيء.