قرار المحكمة الدستورية… بين صرامة النص وروح الدستور

0
119

تحليل معمق لقرار إلغاء بعض مواد القانون 23/02

في الرابع من غشت 2025، أصدرت المحكمة الدستورية قراراً وصفه كثيرون بأنه محطة فارقة في مسار القضاء الدستوري المغربي. لم يكن مجرد فحص شكلي لقانون جديد، بل كان بمثابة تدقيق جراحي في توازن حساس بين تحديث المنظومة القضائية وحماية الحقوق الأساسية، بين سرعة الإنجاز وثبات الضمانات الدستورية.

من النص إلى الجوهر… حين يتكلم الدستور

القانون 23.02، المتعلق بالمسطرة المدنية، كان يطمح ـ حسب مبرراته الرسمية ـ إلى إدخال إصلاحات تواكب العصر الرقمي وتسرّع الإجراءات. لكن المحكمة الدستورية، في إطار الإحالة التي يجيزها الفصل 132 من دستور 2011، لم تكتفِ بوزن النص على ميزان الشكل، بل غاصت إلى عمق روحه، مستندة إلى الفصول 1 و6 و107 و117 و120 و125، وهي الفصول التي تشكل العمود الفقري لدولة القانون وفصل السلط واستقلال القضاء.

وهنا يطرح السؤال: هل يمكن تسريع العدالة دون الإخلال بجودتها ودون التضحية بحقوق المتقاضين؟

الأمن القضائي في الميزان

أخطر ما كشفه القرار هو منح النيابة العامة صلاحية طلب إلغاء أحكام نهائية، دون ضوابط دقيقة. هذه الصيغة، التي قد تبدو للبعض وسيلة لتصحيح أخطاء جسيمة، اعتبرتها المحكمة تهديداً للأمن القضائي، وهو ما يتقاطع مع الاجتهاد الدستوري الفرنسي (قرار 2010-39 QPC) الذي أكد أن استقرار الأحكام النهائية ليس رفاهية قانونية، بل ركيزة للحق في المحاكمة العادلة.

هنا يطل سؤال آخر: من يحمي استقرار القضاء إذا فتحت أبواب إعادة النظر دون قيود محكمة؟

إشكالية التبليغ: مصطلح يربك العدالة

توقف القرار عند مصطلح “المصرح أو الظاهر” في إجراءات التبليغ، معتبراً إياه فضفاضاً وذا أثر مدمر على إلزامية الأحكام. فهل نبالغ إذا قلنا إن ضعف دقة المصطلحات قد يفتح الباب لتأويلات تطيح بحقوق الدفاع؟

المحاكمات عن بعد… بين الحداثة والمخاطر

في زمن الرقمنة، يبدو من المغري تعميم الجلسات عن بعد. لكن المحكمة شددت على أن هذا النمط يجب أن يحترم علنية الجلسات، وحماية المعطيات الشخصية، وتكافؤ وسائل الدفاع، انسجاماً مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (المادة 14) وتجارب مثل القرار الإسباني 123/2019.

السؤال هنا: هل يمكن للعدالة أن تنتقل إلى الشاشة دون أن تفقد هيبتها وضماناتها الجوهرية؟

مبدأ التواجهية… الركن المنسي

من بين ما انتقده القرار، عدم تمكين الأطراف من الرد على ملاحظات المفوض الملكي، وهو خرق صريح لمبدأ التواجهية، الذي يعد قلب المحاكمة العادلة. التجربة الفرنسية (قرار 2011-192 QPC) أظهرت أن أي حوار قضائي ناقص هو عدالة ناقصة.

التعليل… أكثر من واجب شكلي

غياب إلزامية تعليل بعض الأوامر القضائية مثّل خرقاً للفصل 125 من الدستور. التعليل ليس ترفاً بل صك براءة القرار القضائي أمام الرأي العام. المحكمة الإيطالية (قرار 172/2012) كانت واضحة: غياب التعليل يهز شرعية القضاء.

استقلال القضاء… خط أحمر

أكثر النقاط حساسية في القرار كانت رفض منح وزارة العدل صلاحية إحالة قضاة على محكمة النقض بدعوى تجاوز الاختصاص. المحكمة المغربية رأت أن ذلك يمس استقلال السلطة القضائية، في تناغم مع اجتهاد المحكمة الدستورية الألمانية (6 يوليو 2016)، التي حذرت من أي وصاية تنفيذية، ولو بصيغة تأديبية.

ما وراء القرار

قرار المحكمة الدستورية ليس مجرد رفض أو قبول لمواد قانونية، بل دعوة لإعادة التفكير في فلسفة الإصلاح التشريعي. الرسالة واضحة: الإصلاح ليس سباقاً نحو الرقمنة أو السرعة، بل هو بناء متأنٍ يوازن بين الكفاءة وضمانات العدالة.