منذ أن شقّت مياهها قبل أكثر من 150 عامًا، لم تكن قناة السويس مجرد ممر مائي يختصر المسافات، بل كانت، ولا تزال، اختصارًا لتوازنات عالمية ومجالًا لفرض السيادة الوطنية وسط أزمنة السيطرة الإمبريالية. ومع كل أزمة دولية أو تحوّل اقتصادي، تعود القناة لتتصدر العناوين، بوصفها أحد أضخم الأوعية التي تنقل نبض التجارة الدولية.
ولكن، في زمن الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، هل تكفي العراقة وحدها؟ وهل تملك القناة اليوم ما يلزم لتبقى القلب النابض للتجارة العالمية؟
من ملحمة التأميم إلى معركة المستقبل
استعاد طلال أبوغزاله في مقاله حدثًا لا يمكن تجاوزه في مسيرة القناة: تأميمها عام 1956، حين قرّر جمال عبد الناصر نقل الممر من يد الاستعمار إلى حضن الوطن. كان ذلك الفعل، أكثر من قرار سياسي – كان إعلانًا عن ميلاد سيادة عربية جديدة، رفضت الوصاية وواجهت العدوان الثلاثي بلا تردد.
لكن التاريخ لا يكفي وحده لصناعة المستقبل.
وهنا يطرح المقال سؤالًا مركزيًا:
هل تستطيع قناة السويس أن تنتقل من رمز للمقاومة السيادية إلى مختبر مفتوح للثورة الصناعية الرابعة؟
قناة السويس أمام مفترق رقمي
أبرز أبوغزاله التحديات الكبرى التي تواجه القناة، وفي مقدمتها الحاجة إلى الرقمنة والتكنولوجيا الذكية، مشيرًا إلى حلول مثل:
-
الذكاء الاصطناعي لتوقع مسارات الملاحة وتفادي الحوادث.
-
إنترنت الأشياء لمراقبة الحركة في الزمن الحقيقي.
-
تقنيات البلوك تشين لضمان الشفافية في اللوجستيك.
-
التحول إلى الطاقة الخضراء، استجابةً للمعايير البيئية العالمية.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا:
هل تتجه هيئة قناة السويس لتبنّي هذه الحلول فعليًا، أم أن البنية التحتية والتشريعية لا تزال عائقًا؟
ومن سيموّل هذا التحوّل الرقمي؟ وهل يمكن لدولة واحدة تحمّل كلفة تطوير مرفق يخدم الاقتصاد العالمي بأسره؟
من ممر مائي إلى مدينة لوجستية متكاملة؟
ينادي المقال بضرورة أن يتحوّل المجرى الملاحي إلى منظومة متكاملة تتضمن:
-
مراكز صيانة حديثة.
-
مناطق حرة ذكية.
-
شبكات بيانات فائقة.
-
حوافز ضريبية وجمركية لجذب الشركات العالمية.
هذا التصور يحوّل القناة من مجرى عبور إلى منطقة عبور ذكي، ويطرح سؤالًا استراتيجيًا:
هل يمكن لقناة السويس أن تُنافس ممرات مثل “القطب الشمالي” مستقبلاً في ظل ذوبان الجليد، أو مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تعيد رسم خرائط التجارة العالمية؟
وهل ستبقى القناة ذات موقع استراتيجي، أم ستحتاج إلى إعادة ابتكار نفسها لتفادي الهامشية؟
الرئيس السيسي وتحديث الإرادة السياسية
يشير أبوغزاله إلى الدور الذي يلعبه الرئيس عبد الفتاح السيسي في جعل تطوير القناة مشروعًا وطنيًا استراتيجيًا، وليس مجرد تحسين بنية تحتية. منذ توسعة 2015 وحتى اليوم، تسعى مصر إلى تحويل القناة إلى مركز ثقل اقتصادي عالمي.
غير أن هذا التحول لا يخلو من تساؤلات:
هل يمكن لمصر، وسط تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أن تحافظ على زخم هذا المشروع؟
وما حدود الشراكات الدولية الممكنة دون المساس بالسيادة أو تحول القناة إلى أداة بيد قوى كبرى؟
من فكرة الممر إلى فكرة الصندوق الدولي
ربما أبرز اقتراح في المقال هو إنشاء صندوق استثماري دولي لتحديث القناة، ما يفتح الباب أمام أسئلة جريئة:
-
من يملك القرار داخل مثل هذا الصندوق؟
-
وهل تملك مصر القدرة على تأمين استقلال القناة داخل منظومة تمويلية متعددة الجنسيات؟
-
أم أن الخيار الأفضل هو توسيع الشراكات الذكية دون تفريط في مفاتيح السيادة؟
الخلاصة: هل نعيد اختراع القناة أم نكتفي بالحفاظ عليها؟
قناة السويس ليست فقط مشروعًا اقتصاديًا، بل رأسمال رمزي عربي. ومنذ أن أعلنت مصر تأميمها، باتت عنوانًا لتوازن نادر بين الجغرافيا والتاريخ والسيادة.
لكنّ الزمن تغيّر. وما لم تتحوّل القناة إلى منصة رقمية خضراء متكاملة، فإنها قد تُقصى تدريجيًا من صدارة المشهد لصالح طرق بديلة أكثر ذكاءً وأقل كلفة.
ويبقى السؤال الحاسم:
هل نمتلك الشجاعة لتأميم المستقبل، كما أممنا التاريخ؟