كأس العرب ليست صدفة: قراءة في لقب كُتب تحت المطر

0
123

المنتخب المغربي الرديف… حين يتحوّل اللقب إلى شهادة على مشروع كروي يتنفس من عمقه

لم يكن مساء الدوحة مجرد نهائي لكرة القدم، ولا كانت مدرجات “لوسيل” المونديالي مسرحًا لمباراة عابرة تُطوى بصفارة الحكم. ما حدث في 18 دجنبر 2025 كان أشبه بلحظة اعتراف جماعي بأن المنتخب المغربي الرديف لم يعد هامشًا في دفتر الكرة الوطنية، بل صار متنًا يكتب سطوره بثقة، حتى وهو يلعب تحت المطر، وضد مفاجآت لا ترحم.

في أجواء مناخية متقلبة، حيث المطر يُربك الحسابات ويختبر الأعصاب، نجح “أسود الأطلس” في انتزاع لقب كأس العرب من بين أنياب منتخب أردني مقاتل، بعد فوز مثير بثلاثة أهداف مقابل هدفين. فوز لم يكن سهلًا، ولم يأتِ في خط مستقيم، بل تشكل عبر منعطفات درامية تُشبه تاريخ الكرة نفسها: تقدم، ارتباك، عودة، ثم حسم في الوقت الذي يُقاس فيه كل شيء بالنبض.

منذ البداية، كان الإيقاع مغربيًا. ليس لأن الحكم السويدي غلين نايبرغ أطلق صافرة الانطلاق في موعدها فقط، بل لأن المنتخب دخل المباراة بعقلية من يعرف ماذا يريد. الشك الذي راود الجماهير بشأن إمكانية التأجيل بسبب الأمطار الغزيرة، تبخر سريعًا أمام واقع ميداني أوضح: هذه مباراة تُلعب مهما كانت الظروف.

هدف من خارج النص… ومن خارج التوقع

في الدقيقة الرابعة، كتب أسامة طنان مشهدًا سيبقى طويلًا في ذاكرة البطولة. تسديدة من وراء خط منتصف الملعب، جريئة إلى حد الوقاحة الكروية، باغتت الحارس يزيد أبو ليلى الذي كان متقدمًا خطوة أكثر مما ينبغي. لم يكن الهدف مجرد تقدم في النتيجة، بل كان إعلان نوايا: هذا منتخب يلعب بثقة، لا يخشى المجازفة، ويؤمن بأن اللحظة قد لا تتكرر.

ذلك الهدف، الذي يُشبه الومضة، أعاد إلى الأذهان سؤالًا أعمق: كيف تحول المنتخب الرديف من مساحة للتجريب إلى فضاء للإبداع؟ الإجابة لا تكمن فقط في القدم التي سددت، بل في العقلية التي سمحت بتلك التسديدة.

بعد الهدف، واصل المغرب ضغطه العالي، مستفيدًا من انضباط تكتيكي واضح، ومن تحكم ربيع حريمات في نسق اللعب، كقائد أوركسترا يعرف متى يرفع الإيقاع ومتى يترك الكرة تتنفس. كاد وليد أزارو أن يضيف الهدف الثاني، وكادت المباراة أن تنحرف مبكرًا نحو اتجاه واحد، لولا تدخلات الدفاع الأردني ويقظة حارسه.

إصابة كريم البركاوي أربكت الحسابات قليلًا، لكن دكة السكتيوي لم تكن فارغة من الحلول. دخول أشرف المهديوي حافظ على التوازن، وأكد أن هذا المنتخب لا يعيش على أسماء، بل على منظومة.

الشوط الثاني… حين تتغير قوانين المباراة

مع بداية الشوط الثاني، ظهر منتخب الأردن بوجه آخر. ضربة رأسية من علي علوان أعادت المباراة إلى نقطة البداية، وكسرت صمت شباك المهدي بنعبيد لأول مرة في البطولة، بعد سلسلة “كلين شيت” عكست صلابة دفاعية لافتة.

هنا، دخلت المباراة مرحلة أكثر تعقيدًا. الأمطار اشتدت، المدرجات اشتعلت، والقرارات التحكيمية بدأت تفرض نفسها كلاعب إضافي. ركلة جزاء للأردن بعد العودة إلى “الفار”، ترجمها علوان لهدف ثانٍ، لتصبح النتيجة امتحانًا حقيقيًا للأعصاب المغربية.

اختيارات طارق السكتيوي في الدقيقة 72 لم تكن مجرد تغييرات، بل كانت رسالة: لا مجال للاستسلام. عبد الرزاق حمد الله، صابر بوغرين، ومنير الشويعر دخلوا لتغيير الإيقاع، لا لمجرد سد الفراغ. الضغط المغربي تصاعد، والفرص تتابعت، إلى أن جاءت الدقيقة 87، حيث أعاد حمد الله المباراة إلى نقطة التعادل، بنفس البرودة التي تميز القناصين الكبار.

الوقت بدل الضائع حمل كل شيء: فرص ضائعة، مطالب بركلات جزاء، تدخلات حاسمة من بنعبيد، وقرارات تحكيمية ستظل موضوع نقاش. كان واضحًا أن المباراة لم تقل كلمتها بعد.




الأشواط الإضافية… حيث تُصنع الألقاب

في الوقت الإضافي، حاول الأردن أن يخطف المجد بهدف جميل ألغاه الحكم بداعي لمس اليد. وبعدها بدقائق، جاء المشهد الحاسم: ضربة حرة على مشارف المنطقة، عبد الرزاق حمد الله أمام الكرة، وسكون يسبق العاصفة. تسديدة مركزة، هدف ثالث، وانفجار فرح مغربي في “لوسيل” وفي البيوت التي تابعت المباراة من طنجة إلى الكويرة.

ما تبقى من دقائق كان صراعًا مع الزمن. الأردن ضغط، والمغرب دافع بذكاء، إلى أن أُعلن فوز “أسود الأطلس” وتتويجهم باللقب العربي للمرة الثانية في تاريخهم، بعد لقب 2012.

أكثر من كأس…

هذا التتويج لا يُقرأ فقط في سجل البطولات، بل في سياق أوسع: سياق مشروع كروي مغربي بات يؤمن بالعمق، وبأن الرديف ليس درجة ثانية، بل رافعة أساسية للاستمرارية. في زمن تُقاس فيه النجاحات بالنتائج السريعة، جاء هذا اللقب ليقول إن البناء الهادئ، حين يُمنح الوقت، يعرف كيف يكافئ أصحابه.

في قطر، تحت المطر، كتب المنتخب المغربي الرديف صفحة جديدة. ليست الأخيرة… لكنها بالتأكيد من الصفحات التي يصعب نسيانها.

«بين خطاب الإنجاز وأسئلة الحكامة: كرة القدم في المقدمة… والرياضات الأخرى في الظل – قراءة تحليلية لمناظرة البرلمان حول الرياضة المغربية»