تحقيق صحفي تحليلي في زمن الاقتصاد الواجهاتي
في نهاية أكتوبر بطوكيو، كان الوزير المغربي كريم زيدان، الذي جيء به من ألمانيا ليحمل حقيبة الاستثمار في التعديل الحكومي الأخير، يقف بابتسامة رسمية أمام عدسات الصحافة اليابانية. إلى جانبه ممثلو Keidanren، أقوى منظمة اقتصادية في اليابان، وخلفه شعار صغير كتب عليه: «من أجل شراكة اقتصادية مغربية–يابانية متجددة».
لكن خلف هذا المشهد الدبلوماسي المهيب، كان سؤال آخر يتسلّل بهدوء بين السطور:
هل نحن أمام اتفاقيات استثمار حقيقية… أم مجرد عرضٍ محسوب على سياسة الصورة؟
الوزير القادم من ألمانيا… ووزارة تبحث عن الشرعية
حين أُعلن عن دخول كريم زيدان إلى الحكومة المغربية باسم حزب التجمع الوطني للأحرار، بدا وكأن السلطة التنفيذية تراهن على نموذج جديد: وزير عاش في ألمانيا، يتقن لغات عدة، ويُفترض أن يجلب للمغرب نَفَسًا أوروبيًا في تدبير ملف الاستثمار.
غير أن الأشهر الأولى من تولّيه المنصب كشفت عن مسافة مقلقة بين الوعود والإنجازات. فباستثناء البيانات الرسمية المصاغة بعناية من شركات التواصل والمكاتب الاستشارية، لم يرَ الرأي العام المغربي أي أثر ميداني لمشاريع جديدة تُنسب إليه مباشرة.
الوزارة تتحدث عن «مئات المشاريع المصادق عليها»، لكن الميدان صامت. ما من ضجيج ورشات، ولا حديث عن مصانع بدأت الإنتاج، ولا حتى عقود منشورة للعموم.
زيارة طوكيو: الحدث الكبير الذي لم يخلّف أثرًا
البيان الذي أصدرته الشركة المكلفة بالترويج الإعلامي للوزير حمل نبرةً احتفالية: لقاء مع Keidanren، أكبر اتحاد صناعي في اليابان، بمشاركة ممثلي بنوك وشركات عملاقة مثل Sumitomo وMizuho Bank. الوزير دعا اليابانيين إلى «بعثة اقتصادية إلى المغرب لاكتشاف الفرص الواعدة»، وتحدث عن «دينامية جديدة في العلاقات الثنائية».

لكن، حين نقرأ البيان بتمعّن، نجد أنه لا يحتوي أي إعلان عن استثمار محدد أو اتفاق ممول. لا رقم، لا توقيع، لا التزام زمني. فالمبادرة، كما ورد، «تندرج ضمن تعزيز الحوار الاقتصادي» — وهي عبارة مريحة حين لا يكون هناك شيء فعليّ لتقديمه.
البيان استخدم كذلك أرقامًا قديمة — 75 شركة يابانية في المغرب و66 ألف منصب شغل — وهي أرقام تعود لسنوات ما قبل مجيء زيدان. أي أن الرجل استعار إنجازات الماضي ليؤثّث بها صور الحاضر.
المشاريع على الورق… والبلاد تنتظر الاستثمار الحقيقي
حين نعود إلى تقارير اللجنة الوطنية للاستثمار، نجد عناوين ضخمة:
-
237 مشروعًا مصادقًا عليها بقيمة تفوق 369 مليار درهم.
-
ثم تحديث جديد يُرفع الرقم إلى 250 مشروعًا بقيمة 414 مليار درهم.
لكن خلف هذه الأرقام، لا نجد سوى «قرارات بالموافقة» دون دليل على التنفيذ.
فالمصادقة الإدارية لا تعني أن المقاول بدأ الحفر، ولا أن العمال التحقوا بالمصنع. إنها فقط ورقة ترخيص، وغالبًا ما تُستخدم في الخطاب السياسي كأنها إنجاز منجز.
وحين نسأل المقاولين المحليين، أو حتى بعض رؤساء الجماعات في المناطق الصناعية الجديدة، نسمع إجابات متكررة:
“الوزير زارنا، تحدث عن مشروع كبير، لكن إلى اليوم لم نرَ شيئًا ملموسًا.”
أليس في هذا خلل في منطق التواصل العمومي؟ كيف يمكن لدولة تراهن على الاستثمار أن تُحوّل «نوايا التنفيذ» إلى «إعلانات نجاح»؟
حين تتحول الوزارة إلى واجهة للعلاقات العامة
يبدو أن وزارة الاستثمار، كما صاغها التعديل الأخير، لم تتحول بعد إلى مؤسسة إنتاجية حقيقية بقدر ما أصبحت واجهة دعائية لتبرير الحضور السياسي لحزب الأحرار في الحكومة. هناك شركة علاقات عامة تتكلف بصياغة البيانات وإرسالها إلى الصحف،وشبكة من المستشارين تحرص على تغليف كل نشاط للوزير بعبارات مثل «شراكة استراتيجية»، «دينامية جديدة»، «رؤية ملكية رائدة».
لكن حين نطلب التفاصيل التقنية — أين المشاريع؟ من المستثمر؟ كم التمويل؟ متى يبدأ التنفيذ؟ — لا أحد يجيب.
حتى الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات (AMDIE)، التي يُفترض أن تكون الذراع التنفيذية للوزارة، لم تنشر منذ بداية ولاية زيدان أي تقرير دوري مفصل عن نسب تقدم المشاريع أو عقود التنفيذ.
هل هناك شيء نخفيه؟ أم أن الوزارة ببساطة تعيش على واجهة البلاغات دون مضمون عملي؟
الاقتصاد المغربي لا يحتاج لصور… بل لمشاريع تبدأ على الأرض
الرهان الحقيقي في ملف الاستثمار ليس في السفرات الخارجية ولا في التوقيعات الرمزية، بل في قدرة الحكومة على تحويل التراخيص إلى مشاريع قائمة.
المنظومة الاقتصادية المغربية اليوم تعاني من ثلاث مشكلات رئيسية:
-
تعقيد المساطر الإدارية التي تجعل المستثمر يضيع شهورًا بين المراسلات.
-
غياب التنسيق بين القطاعات (الجهوية، الصناعة، المالية…).
-
ضعف الشفافية في تتبع المشاريع بعد المصادقة عليها.
كان المنتظر من الوزير الجديد أن يأتي بعقلية ألمانية منضبطة، تعتمد على الجداول الزمنية والنتائج القابلة للقياس. لكننا وجدنا أنفسنا أمام نفس الأسلوب القديم: لغة البلاغات بدل لغة التقارير، واللقطات البروتوكولية بدل أوراش التنفيذ.
من “دبلوماسية الصورة” إلى “اقتصاد السراب”
يسمّي بعض المحللين هذا النمط بـ“دبلوماسية الصورة”: أن تخلق انطباعًا دوليًا بأن المغرب يعيش طفرة استثمارية، بينما الواقع لا يتجاوز المذكرات والنوايا.
والسؤال: من المستفيد من هذه اللعبة؟
-
الوزير الذي يُعزّز حضوره الإعلامي.
-
الحزب الذي يبرّر اختياراته السياسية.
-
وبعض الجهات التي تستفيد من كلفة الحملات الترويجية والعلاقات العامة.
لكن من يدفع الثمن؟ المواطن المغربي الذي ينتظر وظيفة، والمقاول المحلي الذي يحتاج بيئة عمل واضحة، والجهات التي تراهن على الاستثمار لتنمية مواردها.
في البحث عن الحقائق: ما الذي نطالب به رسميًا؟
انطلاقًا من منهج التحقيق المهني، وجهنا لوزارة الاستثمار ولوكالة AMDIE لائحة رسمية من الأسئلة — بغاية التحقق وليس الاتهام — تتضمن:
-
لائحة المشاريع المصادق عليها منذ تولّي كريم زيدان مهامه، مع تحديد الحالة الحالية لكل مشروع.
-
نسخ من العقود أو مذكرات التفاهم التي تتجاوز قيمتها 100 مليون درهم.
-
جدول زمني يوضح الانتقال من مرحلة الموافقة إلى مرحلة التنفيذ.
-
بيانات عن التوزيع الجهوي للمشاريع وعدد المناصب التي أُحدثت فعليًا.
-
تفاصيل نتائج اللقاءات الدولية (مثل لقاء Keidanren): هل تم توقيع اتفاقات تنفيذية؟ أم بقيت مجرد وعود دبلوماسية؟
هذه الأسئلة ليست اتهامًا، بل حقٌّ في المعلومة وواجبٌ مهني يقتضيه الدستور وقانون الصحافة والنشر. نريد فقط أن نعرف: ما الذي تحقق فعليًا؟ وما الذي لا يزال على الورق؟
جرد ميداني أولي: بين التصريح والواقع
التحقيق الميداني الأولي الذي بدأناه شمل عيّنة من خمسة مشاريع أعلنت عنها الوزارة في بلاغاتها الرسمية خلال السنة الجارية:
-
مشروع صناعي في القنيطرة (قيد الدراسة).
-
وحدة للطاقة الشمسية في الراشيدية (لم تبدأ الأشغال).
-
اتفاقية تعاون مع شركة ألمانية في طنجة (لم يُحدّد تاريخ التنفيذ).
-
مشروع لوجستي في الداخلة (لم يُسجّل في الجريدة الرسمية).
-
مبادرة للشراكة مع مستثمر ياباني (ما زالت في مرحلة التبادل).
النتيجة: صفر مشاريع منجزة بالكامل، وصفر عقود منشورة للرأي العام. كل شيء ما زال في مرحلة «التحضير»، وكأن الوزارة تعيش في زمنٍ موازٍ لا يقاس بالنتائج بل بالبلاغات.
هل نعيش زمن “الريع المقنّع” في الاستثمار؟
حين تُصرف الأموال العمومية على حملات ترويجية لمشاريع غير موجودة بعد، وحين تتحوّل المؤسسات العمومية إلى أدوات لتجميل الصورة بدل مراقبة الإنجاز، فإننا نكون أمام شكل جديد من الريع — ريع رمزي وإعلامي لا يُقاس بالمال فقط، بل بالوجاهة والموقع السياسي.
فهل أصبح الاستثمار في المغرب يُدار بعقلية العلاقات العامة؟ وهل يمكن أن نُقنع المستثمر الأجنبي بجدّية البلد إذا كانت مؤسساته لا تنشر بيانات تنفيذية دقيقة؟ وهل يمكن أن نخلق فرص عمل عبر تغريدات وصور رسمية؟
إلى أين من هنا؟
قد لا يكون كريم زيدان وحده مسؤولًا عن هذا الخلل البنيوي؛ فالإشكال أعمق من شخص. إنه سؤال حوكمة الاستثمار في المغرب: من يتابعه؟ من يحاسبه؟ من يملك حق المعلومة؟
لكن وجود وزير جاء من أوروبا، يحمل خبرة ألمانية ويملك خطابًا حديثًا، كان يُفترض أن يشكل لحظة تحول. غير أن الواقع يكشف أننا ما زلنا في منطق البلاغات. الاستثمار لا يقاس بعدد البيانات، بل بعدد المصانع التي تفتح أبوابها.
خاتمة: حين يصبح الصمت أصدق من البيان
الاقتصاد لا يحتاج إلى خطابات منمقة، بل إلى وقائع ملموسة. والسياسة لا تحتاج إلى صور، بل إلى نتائج يمكن للمغاربة لمسها في حياتهم اليومية. قد ينجح الوزير كريم زيدان في نسج شبكة من العلاقات العامة،
لكن التاريخ لا يذكر من وقّع البيانات، بل من شيّد المصانع وخلق فرص الشغل. فهل يملك الشجاعة لنشر لائحة المشاريع المنجزة أمام الرأي العام؟ أم سيبقى الاستثمار المغربي رهينًا لمعادلة “الصور أولًا… والمشاريع لاحقًا”؟
حق الرد مفتوح
احترامًا لأخلاقيات المهنة ولقواعد التوازن والإنصاف في العمل الصحافي، يبقى حق الرد مكفولًا للسيد كريم زيدان، وزير الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، ولوزارة الاستثمار وكذا الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات (AMDIE).
يرحب التحقيق بتقديم أي توضيحات أو معطيات إضافية تتعلق بالمشاريع المذكورة، أو ببرامج التنفيذ والتتبع، دعمًا لحق المواطنين في المعلومة، وتعزيزًا لثقافة الشفافية والمساءلة العمومية.
تحقيق خاص — إعداد وتحليل: جمال السوسي
(سيُرفق لاحقًا بردود الوزارة وAMDIE إن وُصلت خلال المهلة القانونية)


