كلمة رئيس البرلمان المغربي في اللقاء التواصلي حول الديمقراطية التشاركية

0
405

يسعدني تجديدُ اللقاء بممثلات وممثلي المجتمع المدني في إطار التقليد الذي دشنه مجلس النواب منذ سنوات اقتداءً بمقتضيات دستور المملكة وتكريسًا لسياسة الانفتاح التي نَنْهَجُهَا ايمانا منَّا بضرورتِها في إِثْرَاءِ الديمقراطية المؤسساتية.

وأَوَدُّ أن أرحبَ بِكُمْ وبٍكُّنَّ، كُلٌّ بصفَتِه ومسؤوليته، كما أُرَحِّبُ بممثلي شركائنا في برامج التعاون الدولي الحاضرين معنا بمن فيهم ممثلو الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، والاتحاد الأوروبي، ومؤسسة ويستمنستر للديمقراطية (WFD) والمعهد الوطني الديمقراطي الأمريكي(NDI) والبنك الدولي ومبادرة الشراكة من أجل حكومة منفتحة OGP. وأَعْتَبِرُ هذا الحضُورَ المتنوع والكثيف عُرْبُونَ تقْديرٍ للمؤسسةِ التشريعية، وثقة في الإصلاحاتِ الطموحةِ والمُتَفَرِّدَةِ التي تعْتَمدُها بلادُنا بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بكل إرادية، وبِثَباتٍ ترسيخًا لدولة المؤسسات في إطار التعددية والحرية والتشاور والتوافق.

إن الأَمْرَ، السيدات والسادة، يتعلقُ بنموذجٍ ديمقراطيٍ مغربي متأصِّل تأسَّسَ على مراكمةِ الإصلاحات، وَوَفَّرَ من أجل ذلك الإطارَ الدستُوريُّ، والتشريعاتِ، والمؤسساتِ والآلياتِ الدستُوريةَ التِّي تُيَّسِرُ لَهُ الاستِدَامَة والمَتَانَةَ والقوة والمناعة.

وليست الهيئاتُ المدنيةُ الحاضرةُ معنَا اليوم، سِوى عَيِّنَةً تمثيليةً للمجتمع المدني المغربي الذي يَزيدُ عددُ جمعياته عن المائتي ألف، تشتغلُ في مختلفِ مَنَاحِي الحياة العامة في جميع مناطقِ المغرب. ويعتبر هذا التنوعُ المَجَالِيُّ، والموضوعاتِي في المجتمع المدني، والديناميةُ الذي يتميزُ بها دليلاً قاطعًا على ثَراءِ التَّعدديةِ الثقافية والمدنية المغربية، وهُوَ صُورَةٌ ساطعةٌ عن حريةِ التنظيم، والمبادرة، والتأطير التي تُوَازِي التعدديةَ الحزبية وَثَرَاءَ المشهد السياسي والنَّسَق الحزبي الوطني وتعددية خلفياته السياسية والنظرية.

وبالتأكيد، فإن هذه التعددية الحزبية والثقافية والمدنية المُنْصَهِرةِ في الهوية الوَطَنِية الموحدة، تُعَبِّرُ عنها صحافةٌ تعدديةٌ حُرَّةٌ، نقدِيةٌ بخلفياتٍ سياسيةٍ وفكريةٍ وإعلاميةٍ متنوعة طبعتْ دومًا حياتَنا الوطنية مهما كانت الظروفُ والسياقاتُ. إنه رَصِيدٌ يَبْعَثُ على الفخرِ، وواقع لاَ يُمْكِن إلاَّ أن نَعْتَزَّ به.

وإن مِمَّا يَدْعُو إلى الاعتزاز أكثر بنموذجنا الدستوري والمؤسساتي، حرصُ القانون الأسْمَى للأمَّة على دسترة مَرْكَزِ وأَدْوَارِ وَحُقُوقِ وواجبَاتِ المجتمع المدني، سواءً في ما يرجعُ إلى الديمقراطية التشاركية والمواطنة وتأطيرِ مبادرات المواطنات والمواطنين في هذا الباب، أو إلى المساهمةِ في إعدادِ قراراتٍ ومشاريعَ لدى المؤسساتِ المُنْتَخَبَة والسلطات العمومية وتفعيلها وتقييمها. ومن أجل إِعْمَالِ كل ذلك، اعتمدت بلادُنا القوانين التنظيمية ذات الصلة بالديمقراطية التشاركية وخاصة القانونين التنظيميين المتعلقيْنِ بالملتمساتِ من أجل التشريع والعرائض الموجهة إلى الهيئات المنتخبة والسلطات التنفيذية الوطنية والجهوية والمحلية.

السيدات والسادة،

اسمحوا لي إِنْ كُنْتُ أَطَلْتُ في التذكير بهذه الحقائق. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ وتَعَمُّدَ البعض تَجَاهُلَ قُوَّةِ نَمُوذَجِنا المؤسساتي، وبنائنا الديمقراطي. ويفرضُ علينَا واجبُنا الوطني ومسؤولياتنا المؤسساتية، هذا التذكير، لَعَلَّ ذلك يجعلُ حملاتِ الخَلْطِ، وعلميات الافتراء تَجِدُ طريقها إلى النهاية ليَسُودَ مَنْطِقُ العقلِ في العلاقات بين الشركاء. 

ويندرجُ تنظيمُ هذا اللقاء التواصلي مع الهيئات المجتمع المدني حول تفعيل الديمقراطية التَّشاركية والمواطِنَة في الشق المتعلق بتقديم العرائض والملتمسات إلى السلطات المنتخبة والتنفيذية، في إطار سياسة الانفتاح والإشراك التي يعتمدُها المجلس تَقَيُّدًا منه بأحكامِ الدستور، وأيضا في إطار تنفيذ التزاماته في إطار الشراكة من أجل حكومة منفتحة التي تحظى فِيهَا بلادُنا بمكانةٍ متَمَيِّزة. 

ويعتبرُ لقاءُ اليوم الثالثَ من نوعِه خلالَ الولاية التشريعية الحالية بعد لقاءِ 22 يونيو 2022، ولقاءِ مراكش الإفريقي مطلع نونبر الماضي الذي شارك فيه مجلس النواب بفعالية متميزة وحَضَره ممثلون للمجتمع المدني المغربي إلى جانب أكثر من 400 هيئةٍ مدنيةٍ من بلدان إفريقية شقيقة و13 برلمانا إفريقيا. 

ويعد لقاءُ اليوم أيضا الخامسَ منذ صدور القانُونَيْنِ التنظيمين بشأن العرائض والملتمسات من أجل التشريع بعد لقاء 23 مايو 2019 ولقاء 25 فبراير 2020. ويَوْمَي 21 و22 دجنبر الماضي شهدت هذه القاعةُ، على مدى يومين، نقاشًا غنيا مع شريك أساسي ومُهِم من هيئات المجتمع المدني. يتعلقُ الأمرُ بلقاءٍ دَعَوْنَا إليه في الذكرى العاشرة لاختتام الحوار الوطَني حول الإعلام والمجتمع، هيئات الصحافَة والإعلام من أجل الوقوف على حالِ المِهنة وآفاقِ الإصلاح وتوفير الظروف الملائمة لجعل المهنة تُسايِرُ والسياقات المجتمعية الجديدة. ومَا مِنْ شَكٍّ في أن رسالةَ وأَدْوَارَ الصحافة والإعلام تتكاملُ مع أدْوَارِ المجتمع المدني وفِعله في الميدان، إذ يَظَلُّ الهدَفُ هوَ الإشراكُ والمشاركةُ والإدماجُ وخدمةُ المجْتَمع وإسنادُ الفعل العمومي من حَيْثُ كَوْنُ مُبْتَغَاهُ التمكينُ من الحقوق، والحِرْصُ على الالتزام بالواجب.

السيدات والسادة،

خلالَ مُجْمَلِ هذه اللقاءات تَبَادَلْنَا العديدَ من الأفكار والاقتراحات التي يمكن وضعُها تَحتَ عُنْوَانٍ واحدٍ: ماهو السبيلُ إلى جعلِ المجتمع المدني يساهمُ في إثراءِ الديمقراطيةِ ويَضْطَلِعُ بالأدوار، ويُمَارِسُ الحقوق التي يَكْفُلُها لهُ الدستور والتشريعاتُ ذات الصلة، ويُؤَطِّرُ مبادراتِ المواطنين في مجالِ العرائض إلى السلطات العمومية والتمثيلية، والملتمسات من أجل التشريع إلى السلطة التشريعية.

وَدَعُونَا نكونُ صَرِيحِين، ونؤكدُ أَن ما تَحَقَّقَ إلى حدودِ اليوم في هذا المجال لاَ يَرْقَى إِلى مستوى الطموح الوطني المشترك. وأكثرَ من ذلكَ أَنَّهُ لا يعكسُ ديناميةَ وقوةَ وامتداداتِ المجتمع المدني المغربي الذي تَمَيَّزَ على مدى عشرات السنين مُسَاهمًا في إثراء الحقل الثقافي وتجسيدِ التنوع، وفي تحقيق التنمية وتقوية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ومدافعًا عن حقوق الإنسان، بَعْدَ أَنْ ساهَمَ في الحفاظِ على الشخصية المغربية والتوعية الوطنية في مواجهة الاستعمار البائد.

ولَئِنْ كان يبدو أنَّ هذهِ الأدوار قد تغيرتْ في السياق المجتمعي الراهن، فإن الأهدافَ والرهاناتِ ما تزال هِيَ هِيَ، متمثلةً في تعزيز البناء المؤسساتي وتكريس الثقة، وبناء الإنسان، وتقويةِ التمساك الاجتماعي. وعلينا، جميعًا، أن نستثمرَ الحقوق التي يَكْفُلُها الدستورُ والتشريعاتُ ذاتُ الصلة للمجتمع المدني، من أجل بلوغِ تلك الأهداف. ولكنْ علينَا أن نَتَصَدَّى خلال لقائِنا هذا، للمُعيقات التي تجعلُ الحصيلةَ الوطنيةَ في ما يخصُّ الديمقراطيةَ التشاركية ودورَ المجتمعِ المدني في إِعْمَالِها دونَ الطموحِ المشترك، لنشتغلَ، سَوِيًّا على تجاوزِها.

في هذا الصدد، أعتقد أن خَمْسَ صعوباتٍ أساسية ينبغي أن نتغلبَ عليها من أجل تحقيق مَقَاصِدِ الدستور والتشريع الوطني من تَبْويئ الهيئاتِ المدنية والديمقراطية التشاركية مركزًا مهمًا في الهندسة الدستورية.

ويتَعلقُ الأمرُ أولاً بالمساطر والشروط المطلوبة حتى تكونَ العريضةُ أو الملتمسُ من أجل التشريع مقبولاً من حيثُ الشكلُ، خاصةً في ما يرجع إلى الوثائق المطلوبة، وعدد الموقعين على العريضة أو الملتمسَ، وتوزيعهم الجغرافي. 

وفي هذا الصدد، أعتقدُ أن التعديلاتِ التي طالت القانونيين التنظيميين 44.14 و64.14 في 2021، تُعتبرُ باكورةً لإصلاحاتٍ أخرى يمكن التوافقُ بشأنها من أجل تبسيط أَكَبَر للمساطر، وَلِمَ لا فتح نقاش وطني حول تعديلات محتملة، واستشراف اعتماد قانون حول التشاور العمومي الذي سيؤطر الحلقات الأولى لمسار المبادرات المواطنة.

ويتعلق الأمر في المقام الثاني في الحاجة إلى المهارات الضرورية التي ينبغي أن تتوفرَ في مُؤَطِّري أو مُعدِّي المبادرة المواطنة متمثلةً في العريضة أو الملتمس، علمًا بأنه لا أحدَ يُنكِر الطاقات الخَلاَّقَة التي تتوفر في المجتمع المدني المغربي، وهو ما يحتَاجُ إلى مجردِ تمرين يُوقِظُ هذه الطاقات الخلاقة والإمكانيات الكاملة وتحويلها إلى فعلٍ ومهارات.

وما من شك في أن إطلاقَ برنامج تكاوين مؤسساتية وأوراش تطبيقية، سَيُسعِف في بلوغ هذا الهدف. من أجل ذلك، سيعمل مجلس النواب، وإعمالا لالتزاماته في إطار مبادرة الشراكة من أجل حكومة منفتحة، ومع شركاءَ دوليين على إطلاق هذا البرنامج.

وتتمثلُ الصعوبةُ الثالثة في تدبير التواصل بين هيئات المجتمع المدني من جهة، والمؤسسات المعنية بالعرائض والملتمسات من أجل التشريع من جهة أخرى. وأعتبرُ أن الأمرَ يتعلقُ بإٍشْكَالٍ مَغْلُوط، أَوْ نَفْسِي أكثر منه صعوباتٍ مادية ملموسة، ينبغي أن نتغلب عليه بتغليب مقاصد الدستور وتَمَثُّلِ مصلحةِ المجتمع.

أما الأمر الرابع فيتمثل في توظيف المعلومات واستغلالها على نَحْوٍ أمثلَ، وخاصة المعلومات التشريعية، واستثمارِ تكنولوجيا المعلومات لهذا الغرض. فالمساهمةُ في التشريع من خلال التعليق أو اقتراح تعديلات على مشاريع ومقترحات النصوص الخاضعة لمسطرة التشريع، وتَبَيُّن من الذي يدخل في باب القانون وما الذي هو من باب التَّنظيم، كلها عُدُّةٌ لِبِنَاءِ المبادرات المواطنة، من حيث الشَّكلُ ومن حيثُ المحتَوى، مع التقيد بالقانون طبعًا.

وأعتقد أن المواقع المؤسساتية تتضمنُ ما يكفِي من محتويات وَدَلائِلَ مرجعية، ومن توضيحات للمساطر تُسْعِفَ في بلورة مبادراتٍ مَقْبولةٍ وناجعة. 

أما الإشكال الخامس، فيتمثلُ في نجاعة اختيار محتَوى المبادرة المواطنِة (عريضة أو ملتمس من أجل التَّشريع)، أي مَدى ملاءمتها للحاجة المجتمعية، وحدود احترامها للاختصاص، وتجنب تنازع المصالح والترفع على كل نزعة أو مصلحة خاصة أو فئوية corporatiste ، وهي أمورٌ تكونُ مَحْسُومَة عندما يدرك كل فاعل اختصاصاته وحدوده: أي ما الذي يَقَعُ على عاتق الحزب، وما الذي يقع على عاتق الهيئة المدنية.

السيدات والسادة،

لقد حَرَصْنَا في مجلس النواب، رئاسةً ومكتبًا ورؤساءَ فرق ومجموعة نيابية على توفير الإطار الملائم لتقلي المبادراتِ المُواطِنة بدءًا من تأطير ذلك بفصول من النظام الداخلي للمجلس، وبتشكيل لجنة العرائض حيث تُمَثَّلُ المعارضةُ والأغلبية، وبتعيين مصلحة في إدارة المجلس لهذا الغرض، ونحن بصدد الاشتغال على آليَة معلوماتية رقمية لتدبير العرائض والملتمسات الموجهة للمجلس.

ويبقى طُمُوحُنا المشترك، هو إطلاق دينامية جديدة في الديمقراطية التشاركية والمواطنة، خاصة في شِقِّها المتعلق بالعرائض والملتمسات حيث يضطلع المجتمعُ المدني بأدوارِ تأطير مبادرات المواطنين، بما يغذي الديمقراطية المؤسساتية التَّمثيليةَ. رِهَانُنَا أيضا هو أن يكونَ للتشريعات ذات الصلة أَثَرٌ ووقعٌ على إعمال هذه الحقوق الدستورية، وبالنتيجة أن يكونَ لكل ذلك أثرٌ إيجابي على منسوب الثقة في المؤسسات.

من أجل ذلك، أدعوكم من خلال النقاش والتفاعل الذي سيكون لكم اليوم مع ممثلي المؤسسة التشريعية، ولاحقًا لذلك، موافاتنا باقتراحاتكم في أقرب الآجال، بشأن ما الذي تَرَونَه ضروريًا من تَدابير أساسية لِضَخِّ ديناميةٍ جديدةٍ في الديمقراطية التشاركية سواءً في ما يخص التكوينَ والتأطيرَ، أو المساطر أو المَسَارَات أو التَّواصل أو المآلات.

ومن جهة أخرى، وتكريسًا لانفتاحنا على الممارسة الدولية المقارنة، يَحْضُر معنا خبراءُ من بلدان أروبية، أدعوكم إلى التفاعل مع ما سيقدمونه عن الممارسات في بلدانهم، علمًا بأن لكل بلدٍ سياقُه السياسي والدستوري والمؤسساتي وتقاليده الديمقراطية والمؤسساتية، وعلمًا بأن ما يكفله دستُور المملكة والتشريعات ذات الصلة، يعتبر من التشريعات جد المتقدمة والتحررية في العالم، بالطبع على غرار ما تكفله من حقوق أخرى تغطي جميع مناحي الحياة.

وفي الختام، إذ أُذَكِّرُ بأن مِمَّا يُمَيٍّزُ نموذجنا الديمقراطي والمؤسساتي، هو المركزُ والأدوارُ المكفولةُ للمجتمع المدني، وللديمقراطية التشاركية والمواطنة، وإذ أعيدُ التأكيد على أنها لن تَحُلَّ مَحَّلَ الديمقراطية المؤسساتية التي تكتسب شَرْعِيَتَهَا من الانتخابات، وباعتبارها تجسيدًا للإرادة الشعبية المعبر عنها في صناديق الاقتراع، أُجَدِّدُ التأكيدَ على أن من معاييرَ ديمقراطية القرن 21، الانفتاح على المواطنات والمواطنين وإشراك المجتمع المدني، اعتبارًا لما يميز حضوره وعمله من قُرْبٍ وامتداد مجالي، ويَقَظةٍ.

أُجَدِّدُ الترحيبَ بكم جميعًا وأتمنى لأشغالكم النجاح.