توصلت هيئة تحرير “المغرب الآن” بنص أدبي/فكري من الدكتور عبد السلام فزازي، أستاذ الأدب بجامعة ابن زهر بأكادير. النص، في ظاهره استحضار ساخر لشخصية “جحا”، وفي عمقه تأمل رمزي حاد في راهن مأزوم، حيث تتحول البلادة إلى معيار، واللامعقول إلى قاعدة سلوكية، والمأساة إلى مسرح هزلي جماعي.
وبما أن خطنا التحريري ينأى عن النقل التقليدي ويعيد تقديم المواد الفكرية بلغة تحلل وتفكك وتعيد تركيب الرموز في سياقها الحضاري والثقافي، فقد ارتأينا أن نقدم هذا النص ضمن سلسلة “تأملات ضد التيار”، باعتباره تجاوزًا للسرد الكلاسيكي نحو صياغة فكرية تروم تفكيك البديهي، وفضح العبث المتستر وراء “المألوف”.
جحا… الوجه الآخر لخرابنا
منذ الطفولة، كانت شخصية “جحا” تثير فينا الضحك. مغامراته العجيبة ومواقفه الملتوية بدت لنا آنذاك ترفًا فكاهيًا لا أكثر. لكن، كما يكشف لنا الدكتور فزازي، فإن “جحا” لم يكن يومًا مجرد شخصية شعبية طريفة، بل رمز ساخر لعالم معكوس، يشتغل بمنطق اللاعقل، ويرفض المباشر والمفهوم، ويجعل من العبث منهجًا.
جحا لا يمد يده إلى أذنه القريبة حين يُسأل عنها، بل يمررها من خلف رأسه ليصل إلى الأذن البعيدة، ناكرًا البديهة لصالح العبث، وكأن العادي يُخيفه بقدر ما تُغريه الفوضى.
لكن، لعل السؤال الأهم: من هم “جُحا” هذا العصر؟
وهل نحن أمام “شخصية” أم “منهج حياة” و”نمط تفكير” يهيمن على الذهنيات العربية المعاصرة؟
هل أصبحنا نحن جميعًا – دون وعي – نمثل نسخًا حديثة من “جحا” الكبير، نحترف التهرب من الوضوح، ونُدمن العيش في دوائر الفهلوة واللامعقول؟
« Joha » est un miroir, pas une victime
حين يُصبح الغرائبي نظامًا للحكم والتفكير
في هذا النص، لا يُعيد الدكتور فزازي فقط تقديم “جحا” كرمز بلاغي، بل يكشف التحوّلات السوسيو-ذهنية التي أصابت المجتمعات العربية، حيث بات “المستحيل” أكثر قابلية للتصديق من “المنطقي”، وصار التهريج أقرب إلى خطاب سياسي معتمد، والبلادة آلية للنجاة.
في كل مشهد سياسي أو ثقافي أو حتى تربوي، ثمة “جحا” يحضر… لا للسخرية، بل لإعادة تشكيل الفوضى بمقاييس عقلنة جديدة: اللامعقول المؤسس، أو كما يسميه النص “المتوقع البسيط الكاسد”.
بين مقاومة التقليد… ونقد السكونية
النص لا يكتفي بالتشخيص، بل يدعو إلى كسر آليات التكرار، وتحقيق “يقظة فكرية” تُعيد الاعتبار للخيال النقدي والاختلاف. لا مكان هنا للنسخ، ولا مجال للتكرار أو التقديس الساذج. العالم، كما يردد النص مع “أنطونيو ماتشادو”، واسع ومفتوح… والخوف من التغيير لم يعد مبررًا.
وفي ختام النص، يقتبس الكاتب قولاً عميقًا:
“وإلا سنكون كمن جاء يعينهم في قبر أمه، فهرب بالفأس…”
سخرية سوداء تلخص المأساة: الهروب من المسؤولية، والتخلي عن الواجب، والاكتفاء بالمشاهدة.
خاتمة: “جحا” هو المرآة… لا الضحية
هذا النص من الدكتور عبد السلام فزازي ليس مجرّد قطعة أدبية، بل هو صفعة رمزية في وجه عقل مستسلم. إنه دعوة لأن نعيد مساءلة البديهي، وننقّب في ذواتنا عن آثار “جحا” النائم فينا جميعًا. فمن يسخر من “جحا” اليوم، ربما لا يعلم أنه يضع أصبعه على نفسه.