عرضت اللجنة الملكية التي عهد اليها اعداد نموذج مغربي للتنمية تقريرها النهائي على انظار ملك البلاد ، كما قامت اللجنة ذاتها بعدة لقاءات تشاورية لعرض مضامين التقرير وشرح الخيارات التي يطرحها التقرير لتغيير الوضعية التنموية لبلادنا نحو الأفضل . بدوري اطلعت على التقرير و قرات بتمعن مضامينه وخرجت بالملاحظات التالية :
*التقرير قام بتشخيص عدد من أزمات التنمية بالمغرب وقام باقتراح عدد من الإجراءات والاقترحات التي على المدبر العمومي الاخذ بها من اجل الانتقال من المرحلة الحالية المتسمة بأزمة التنمية الى مرحلة افضل وفق اجندة زمنية تصل الى 2035 ،الا ان الخطاب والأسلوب الذي قدم به التقرير احتياجات و أزمات المواطنين في التقرير كان ناعما ومخففا و لا يعكس حجم الخصاص الاجتماعي المهول وعمق الفوارق الاجتماعية التي تسري في الجسم المغربي .
*التقرير في نظري تناول ازمة التنمية بمنظور ليبرالي صرف و تحكم في فقراته هاجس التحكم في التوازنات الماكرو اقتصادية وتناول الازمة بمنطق ارقام النمو الاقتصادي و معطيات المؤسسات المالية الدولية أي ان التقرير يبشر بحل ازمة التنمية في ظل إمكانية انسنة النظام الراسمالي وجعله نظام اجتماعي عادل ، وهذا من المحال و المتعذر لسبب بسيط ان النظام الراسمالي لا يؤمن سوى بالربح و لاشئي اخر سوى الربح ولو كان ذلك على حساب الانسان والطبيعة ، لذلك لا اجد شخصيا أي افق لاصلاح اقتصادي وسياسي واجتماعي في ظل الرهان على نظام اقتصادي غير عادل في كنهه ومعادي في صيرورته المستقبلية لحقوق الشعوب ، التقرير لم يستطع ان يعطينا تشخيصا دقيقا لوضعية الاقتصاد المغربي الذي يهيمن عليه الاقتصاد الاحتكاري الريعي و يعرقل انتشار الفساد تطوره الطبيعي. أي ان التقرير لم يسم الأمور بمسمياتها ولم يكن جريئا كما كان من المتوقع .
*التقرير دعا الى “تحرير الطاقات من خلال تعزيز قدرات المواطنات والمواطنين لاستباق التحولات التي يشهدها العالم من اجل تعبئة الفرص التي يتيحها والتخفيف من حدة المخاطر الناجمة عنها” دعوة مفيدة وممتازة ومؤسسة ولكن كيف يمكن تحرير الطاقات ؟ هل معنى ذلك تحريرها من الثقافة السائدة المكبلة ؟ هل يمكن تحرير الطاقات المغربية في ظل سيطرة اسر وعائلات و جهات ترابية بعينها على مقدرات البلاد ؟ هل يمكن تحرير الطاقات المغربية في ظل سيطرة نخب سياسية فاسدة ومسيطرة على القرار السياسي والحزبي والنقابي منذ سبعينيات القرن الماضي ؟ في نظري المتواضع لا يمكن تحرير الطاقات المغربية بدون اصلاح سياسي و قانوني يمكن من افراز نخب سياسية وإدارية جديدة متشبعة بالروح الوطنية ومؤمنة بالتناوب على المناصب والمسؤوليات وقادرة على إعطاء الحساب في نهاية الخدمة أي ربط المسؤولية بالمحاسبة .
*التقرير تناول أزمات التنمية ببلادنا من خلال مداخل أساسية للازمة التنموية أي التعليم والصحة والعدل و ندرة الموارد الطبيعية و تقلص فرص الشغل …. لكن بدون مقارنة حقيقية مع البلدان التي سبقتنا في هذه المجالات ، حيث ان التقرير لم يعطينا نماذج لدول ناجحة تنمويا من اجل اقتفاء اثرها . لكن للرجوع هذه الازمات فاننا نستشف من التقرير تغييب التركيز على ضرورة الحفاظ على مجانية التعليم و دمقرطته و تعميمه و مساواة القطاع العام مع الخاص ، فوجود تفاوتات بين القطاع الخاص والعام يكرس التمايزات الاجتماعية ويجعل المجتمع منقسم بين عدة اشطر لا متكافئة . كما ان التقرير لا يلامس الأوضاع المادية لرجال التعليم ودورها في تحفيز المشتغلين في هذا القطاع لبذل قصارى جهدهم للمساهمة في الرقي بالمنظومة التعليمية ، فالاستاذ والمربي هو حجر الزاوية في أي اصلاح تعليمي و تأهيله و تحسين أوضاعه الاجتماعية وإعادة الاعتبار له في النسيج الاجتماعي و الاعتباري،عنصر أساسي لاي اصلاح تعليمي ،فقد تم اهدار ملايير وملايير من الدارهم في اصلاح التعليم منذ سنة 2009 في اطار البرنامج الاستعجالي …ولكن تم تشييد الابنية واصلاح الحجرات لكن لم يتم استهداف الاستاذ ولا التلميذ ولا محيط التلميذ ، اي اصلاح للتعليم لابد ان يكون بمقاربة شمولية مركزها الاستاذ والتلميذ. ما قيل في التعليم يقال في الصحة كذلك فالفوارق الصارخة بين التطبيب العمومي والتطبيب الخاص و المشاكل البنيوية التي يعاني منها قطاع الصحة الذي ينخره الفساد و تسود فيه العشوائية مما يؤدي الى اهدار الحقوق الإنسانية للمرتفقين ، كلها ظواهر تنذر بان قطاع الصحة بحاجة الى عملية جراحية عاجلة تستأصل منه هذه الامراض ، صحيح ان مجهودات كبرى بذلت لكنها تبقى ضعيفة امام تراجع قطاع الصحة في تقديم خدمة عمومية مجانية للمواطنات والمواطنين ، ثمة ازدياد في عدد المستشفيات و عدد الاسر وعدد كليات الطب و هناك تطور في الموارد المالية المخصصة حكوميا للقطاع لكن حجم الانتظارات الشعبية و التوزيع الغير العادل للمنشئات الطبية وللموارد البشرية القليلة اصلا يجعل بلادنا بحاجة الى وقفة حقيقية لاصلاح قطاع الصحة .
اما بخصوص ندرة الموارد الطبيعية و هاجس الازمة المائية المخيفة التي تؤرق بلادنا أتساءل : لماذا الاستمرار في زراعة فواكه وخضر تستنزف الفرشةالمائية ؟. لماذا إعطاء التراخيص بشكل مكثف لحفر الابار في مناطق تعاني أصلا من الجفاف؟لماذا اغراق عدد من المناطق بالمغرب بمقالع تأتي على الأخضر واليابس ؟
الاعتراف الرسمي بفشل النموذج التنموي الحالي من طرف اعلى سلطة بالبلاد امر إيجابي في حد ذاته ، لان الاعتراف بالخطأ من شيم الشجعان وليس دليل نقص او عجز ، و التقرير اتى بعدد من النقط الأساسية والمحورية التي تعاني منها منظومتنا الاجتماعية والاقتصادية ومنها الاعتراف بان النموذج التنموي الحالي يعطل اليات الارتقاء الاجتماعي و يؤدي الى تلاشي الثقة في قدرة المؤسسات العمومية على السهر على الصالح العام .تلاشي الثقة بين المواطن و المؤسسات العمومية عرض خطير لمرض اخطر وهو مرض فقدان المناعة الوطنية و الكفر بجميع المؤسسات وما يستتبعه ذلك من خلق مجتمع يائس يفكر بالهجرة عن الوطن و شعب يكذب كل ما تاتي به مؤسساته ولا يعترف بها أصلا ؟ ان التقرير وضع اصبعه على الداء عندما قال بان ازمة الثقة اتجاه الفاعل العمومي منتشرة بل فاضحة خاصة عندما يلامس المواطن العادي في يومه تردي الخدمات الاجتماعية وانتشار الرشوة والفساد وضعف الوازع الأخلاقي و انحسار قيم النزاهة في كل المجالات . لكن اين الحل ؟ اين دواء هذا الدواء العضال ؟ هل يمكن لحكومات منبثقة عن انتخابات لا تمثل انتظارات الناخبين و لا يمكن لقطاعات حكومية تقصي الكفاءات و تسير بمنطق القبيلة والغنيمة ان تعطي للمواطن المغربي بلسم يشفيه من اسقامه؟ وقد يقول قائل : وهل الحكومة تحكم أصلا لنطلب منها تطبيق وعود الإصلاح ؟
المواطن المغربي بحاجة لمن يعطيه جرعات الامل عبر برامج انتخابية حقيقية ملموسة وعبر نخب سياسية وطنية مسؤولة ونزيهة . إعادة الثقة يحتاج وقتا كثيرا ، لكن البداية تكون بمؤشرات ورسائل مطمئنة متفائلة تعطيها الدولة الى المواطن، وبدايتها اقرار ضريبة على الثروة اي ضريبة تضامنية لفائدة الفقراء ،والبدء الفوري في اصلاح جبائي، ومراجعة اجور وتعويضات كبار المسؤولين ،و اصلاح منظومة الصفقات العمومية ،و تخليق القضاء ،واشاعة الحريات العامة والخاصة، و اطلاق سراح جميع معتقلي الراي ..، فكلنا نتذكر الامال الكثيرة و الروح الإيجابية التي دبت في جسد المغاربة اثناءحكومة التناوب الأولى وكيف تقبل المغاربة اوراش المصالحة والانصاف بكل شغف و تطلعوا الى المستقبل بتفاؤل كبير . لكن تبخر كل شيء عندما تم اللجوء الى التقنوقراط و الالتفاف على مكتسبات التناوب و تولي حكومة العدالة والتنمية زمام الحكومة . وكانت وعود العدالة والتنمية براقة لامعة طموحة ،و استغل الحزب حاجة المغرب للإصلاح والدمقرطة وانتظر المغاربة حكومة تاتي بالعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة وإصلاح أوضاعهم المعيشية ، وكم كانت خيبة المغاربة قاسية عند ما فشلت حكومة العدالة والتنمية في وعودها و تخلفت عن شعاراتها الكبرى و تطبعت تدريجيا مع الفساد وتأقلمت مع ملذات السلطة ومزاياها و اعدمت كل وعود الإصلاح بل مررت في عهدها اسوؤ القوانين واجحفها فكانت المعول الذي هدم السلم الاجتماعي و انقض على كل مكتسبات الطبقات الفقيرة سابقا ، فعاد منسوب الياس يرتفع تدريجيا ليصل اليوم الى مستوى غير مسبوق.
الدولة العادلة القوية التي ينشد التقرير الوصول اليها ، لا تستقيم وتترعرع الا في كنف مجتمع قوي مؤطر بالقيم الإنسانية والحضارية ومتشبع بالقيم الوطنية الحقيقة ، اما وقد ساد الياس و انكفا الإصلاح وتراجعت امال التغيير الديموقراطي، فلا يمكن الا انتظار فشل كل البرامج و السياسات العمومية وان كان بعضها وجيها وصادقا ، ما لم تشرك الدولة المواطن بمسؤولية وتحترم اماله وطموحاته ،سيبقى عنصر الثقة بينهما مفقودا و لن تفلح أي سياسة عمومية بدون ثقة المستفيدين المفترضين منها ،لذلك لابد لاي سياسة عمومية ناجعة في المستقبل ان تستهدف تغيير العقليات الانتهازية بعقليات تحب الوطن و تسعى لنمائه وتقدمه، الاعتماد المكثف واللامسؤول على الاقتراض الخارجي لتمويل الاستثمارات العمومية ،واستمرار اقتصاد الريع و سياسة تأجيل الإصلاح لربح الوقت لا تنتج الا أزمات متراكمة لا يضحى ان تنفجر يوما على الجميع وستؤدي الى كوارث تؤذي الجميع ، فالانحباس الديموقراطي و الاختناق الحقوقي و الهدر الاقتصادي سيؤدي لا محالة الى ما لا تحمد عقباه وامثلة التاريخ كثيرة و دالة .
نعم المغرب قوي بتاريخه و حضارته الممتدة في الزمن و متماسك بغناه الثقافي والديني.. لكن المجتمع المغربي مايزال يبحث عن مؤسسات عمومية وخاصة مواطنة و ما يزال يتطلع الى مستقبل سياسي واجتماعي واقتصادي زاهر لكن بنخب حقيقية مؤمنة بالتغيير و الدمقرطة ,ساعية الى نماء ورقي البلد بشكل حقيقي لا مواربة فيه.