ليلى … حكاية الألف ليلة الجزء السابع

0
226

عبدالباري المالكي

لاشيء أشد وقعاً على القلب من حيرة تغمره ، ولا أشد وطأة على النفس من وهمٍ ظنّته هي حقيقة ذات يوم ٍ .

إنها خسارة القلب التي لا خسارة بعدها أبداً ، وأنها فشل للنفس بعدما حسبت أنها تعيش أجمل لحظاتها … (كيف لقلب أن يثقله همّ العشق ؟ ) … كان هذا مايراودني منذ سنين ، أسائل نفسي وأضحك على العشاق ، وأستغرب قصصهم المفجعة …ليلى وقيس اعجوبة الدهر … كيف لرجل ان يعشق ليلاه حتى الجنون ، وقد كاد يموت ، أ حقاً هناك رجل بهذه العظمة من القلب يعشق فيُجَنّ !؟ …وربان السفينة ! هذا الرجل المعتوه ، كيف له ان يجوس عرض البحر وطوله بأمواجه المتلاطمة ، وأسراره الغزيرة دون أن يهابه للحظة !؟  أليس ذلك عشقاً ؟ أم أنها مجرد مغامرات رجولية بين البحر والنساء ؟ الرجل … عالم مليء بالوهم ، وحسن الظن والنوايا .
ولذلك فهو عالم لايعيش فيه إلا المساكين من امثالي .

كل تلك … كانت تساؤلات لم اجد لها جواباً يطمئنني ، لذلك لم أكن أؤمن بعشق البحر و لا بالنساء .

مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي كنا نمشي فيه انا وليلى على جسر (الصرافية) حين سألتها …:- ليلى هل تؤمنين بالعشق الإلهي ؟ قالت :- يااااااه ماأجمله ! قلت :- وماذا يعني هذا عندك ؟ قالت :- إن العشق الإلهي هو ان تتحد روحانا سوياً لنرتقي سلّماً الى السماء درجة درجة … ولشد ما أذهلتني ليلى بجوابها حين سألتها :- ماذا تعنين بذلك …؟ فأجابت :- لا عشقَ ينمو إلا العشق الإلهي ، ولا أحد يحيا فيه إلا الصادقون .

تلك الكلمات ياسادة مازالت ترنّ بأذني كأنها اليوم ، بل كأنها الساعة وهي تهمس في أذني بلطف … :- أ أخبركَ سراً ياجعفر ؟ :- نعم ياابنة قلبي . :- العشق جنون ياجعفر . :- جنون !!! :- نعم ياجعفر … جنون .

ياالله …ما أجمل كلماتها تلك … وما أقساها من امرأة عرفت معنى العشق ، فأوجعت ، وبلغت مفهوم الغرام فقتلت .

لقد صدقت هي حين قالت لي ذات يوم :- إن العشق لايقربه إلا السكارى .

فالسكارى وحدهم القادرون على المضيّ بعشق دون ان يعرفوا مخاطر نهايته ، فإن كان الجنون ، فإنه ليس أسوأ حالاً مما هم فيه ، وإن كان سعادة ، فهم الغالبون .

والسكارى وحدهم من يعيشون حياة اللحظة ، ولايبالون باللحظة القادمة ايّاً كانت ، وهم وحدهم الغير آبهين لما مضى من حياتهم ، وغير متوجسين من قادم الأيام .

والسكارى هم من أحتاج إليهم الآن للنصح والمشورة … فنصيحتهم أولى بالاقتداء بها من غيرهم لأنهم لن يخسروا شيئاً او يضيّعوه أكثر مما هم فيه من الخسران والضياع .

كان كل ذلك يساورني في أفكاري المزدحمة بسبب ليلى ،وما أدراك َ ما ليلى ! إنها الطريق الى الجنة ، بل هي الجنة نفسها .

لذلك كان لزاماً عليّ أن ابحث عمّن يمنحني نصيحة لما أنا فيه ، وليتني لم أكن في ما أنا فيه .

لذلك كله فقد رحتُ أفتش في الطرقات عن رجل شرب الخمر فأسكرته حد الغشَيان لأطلب مشورته ، وليتني لم أفعل .

لقد وجدت مبتغاي ، رجلاً متوسط العمر ، أخذ منه السكر مأخذه حتى سلبه عقله واتزانه ، وقد اتشح بوشاح اسود على رأسه خشية أن يراه المارة فيعرفوه ، تفوح منه رائحة الخمرة النتنة من ثغره المتيبّس ، يرتدي أسمالاً وكأنه ارتداها منذ ولادته ، ممزقة من بين ركبه وصدره ، حافي القدمين ، كثّ اللحية ، حاجباه هاطلان على عينيه الغائرتين .

اقتربتُ منه ، وألقيتُ عليه التحية …:- أخي … ماالذي أودى بكَ الى هذه الحالة من الضعف والضلال ؟ :- أ أخبركَ … فلا تشقى ؟ :- أشقى ؟ :- إنه العشق ياأستاذ .

:- العشق !؟ :- نعم … إنه الدرب الذي لايسير فيه إلا الأموات الى قبورهم ، فالعشق رمسهم الأخير ، وبيتهم الطينيّ الذي لايغنيهم من سحائب الدخان ، وهو شجرة الزقوم التي تطعمكَ من كل ضريع ، فمن أراد العشق ياأستاذ فعليه أن يختار ما بين الجنون او الموت ، ولمّا كان كذلك فإني قد اخترتُ الجنون ، لا خشيةً من الموت ، وإنما أملاً بمعشوقي أن يمنحني من قلبه مايعيد لي ذرة من عقلي .

:- يا الله … أي كلام محبطٍ هذا ياأخي !؟

:- ليتكَ تدرك حقيقة ما أقوله لكَ ، فمهما أخبرتكَ عن العشق ، فإنكَ لن تطال معنى ما أرومه في كلامي عنه .

والحق …إنني منذ ذلك الحين الذي لقيتُ فيه ذلك السكران ، فإني أعيش لحظات المهابة من الجنون أكثر من الخوف من الموت ، فما زال صداه يرنّ في أذني …
(العشق طلّسم لايفكه إلا المجانين ) .

وها أنا ذا … أسأل نفسيَ الآن … :- هل جننتُ أنا ؟ وليتني أجد الإجابة عندي او عند ليلى ، فلطالما هي أخبرتني بشيء لم أعيِهِ من قبل ، ولم أتزود من الحياة ما يمكّنني من الفوز عليه …:- ( العشق طريق لا يسلكه إلا المجانين ياجعفر ) .