“مالي تتهم وباريس تنفي: شرعية النفوذ الفرنسي على المحك”

0
203

“فيزيلييه: دبلوماسي بوجه عسكري في قلب مؤامرة إفريقية”

في 15 أغسطس 2025، أعلنت السلطات المالية عن اعتقال عدة شخصيات، من بينها الجنرال يان كريستيان برنار فيزيلييه، ضابط في الجيش الفرنسي وسكرتير ثانٍ في سفارة فرنسا بباماكو. اتهمته باماكو بالمشاركة في مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بالسلطات المالية، ليصبح رمزًا لكل الغموض المحيط بالوجود الفرنسي في إفريقيا.

منذ “بوب دينار” (الاسم الحركي لجيلبرت بورجو) في السبعينيات، الذي كان يعمل كمرتزق لصالح فرنسا في إفريقيا، حتى “فيزيلييه” اليوم، تتضح نفس المنطقية: فرنسا تتأرجح بين النفوذ، التدخل، وفقدان السيطرة في منطقة الساحل.

الجنرال فيزيلييه: دبلوماسي-جندي في قلب العاصفة

في 15 أغسطس 2025، أعلنت السلطات المالية عن اعتقال عدة شخصيات متهمة بالتحضير لانقلاب. من بين هؤلاء، يوجد فرنسي: يان كريستيان برنار فيزيلييه، مقدم في الجيش الفرنسي الجوي وثاني سكرتير في سفارة فرنسا بباماكو.

وقد قدمه وزير الأمن المالي على أنه “عميل مرتبط بالاستخبارات الفرنسية”، ليصبح فورًا محور صراع دبلوماسي. باريس دانت “اتهامات بلا أساس” مؤكدة أن ضابطها يتمتع بالحصانة الدبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا. من جهتها، أصرت باماكو على أن “المناورة” بدأت منذ 1 أغسطس، ما يشير إلى مشروع منظم يهدف إلى زعزعة الاستقرار خلال فترة الانتقال.

بعيدًا عن الوقائع، تبرز حقيقة واضحة: هذا الاعتقال يمثل مرحلة جديدة في الحرب على النفوذ بين فرنسا ومالي منذ الانقسام السياسي عام 2022.

بوب دينار: نموذج الجواسيس

لفهم الرمزية وراء “قضية فيزيلييه”، يجب العودة إلى اسم: بوب دينار. هذا البحار السابق الذي أصبح مرتزقًا، واسمه الحقيقي جيلبرت بورجو، قام لعقود بتنفيذ عمليات لمصلحة فرنسا في إفريقيا.

من الكونغو إلى بنين، وخاصة جزر القمر، يجسد دينار تلك الدبلوماسية الموازية حيث كان المرتزقة يعملون كذراع مسلح للمصالح الفرنسية، تحت غطاء حماية الأنظمة الحليفة أو إبعاد القادة غير الموالين. إن انقلاباتهم، التي غالبًا ما تمت بمباركة ضمنية من الإليزيه، ستظل تُذكر كعصر ذهب للجواسيس الأفارقة.

من دينار إلى فيزيلييه: الاستمرارية والانقطاع

المقارنة بين دينار وفيزيلييه ليست مجرد تبسيط صحفي، بل توضح استمرارًا وتحولًا في التدخل الفرنسي:

  • الاستمرارية: الأهداف الاستراتيجية نفسها تبقى. السيطرة على الموارد (اليورانيوم النيجيري، الذهب المالي، النفط التشادي)، والحفاظ على منطقة نفوذ أمام المنافسين، ومنع بروز أنظمة مستقلة للغاية.

  • الانقطاع: حيث كان دينار يعمل كمرتزق، يعمل فيزيلييه الآن بزي رسمي وفي قلب الجهاز الدبلوماسي. مرتزقة الأمس “الخارجية” تحولوا إلى صراع رسمي بين الدول ذات السيادة.

الساحل: ساحة معركة النفوذ

منذ 2020، دخلت منطقة الساحل مرحلة اضطرابات غير مسبوقة. شهد كل من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر انقلابات عسكرية، غالبًا مصحوبة بخطاب عنيف معادٍ لفرنسا.

وأدى الانسحاب القسري لقوات عملية برخان إلى ترك المجال مفتوحًا أمام لاعبين آخرين: روسيا عبر Africa Corps (المعروفة سابقًا باسم فاغنر)، بالإضافة إلى تركيا، الصين، والإمارات. في هذا السياق، تسعى فرنسا للحفاظ على نقاط دعمها في كوت ديفوار، السنغال، وتشاد.

لكن تزايد الاتهامات — مثل تلك الموجهة إلى فيزيلييه — يبرز حقيقة: الخطاب الرسمي لمكافحة الإرهاب أصبح يُنظر إليه كواجهة فقط. بالنسبة لجزء من الرأي العام الأفريقي، تظل باريس مرتبطة بالتدخلات و”التلاعبات” الموروثة عن حقبة Françafrique.

خمسة أرقام لفهم ميزان القوى في الساحل

إذا سلطت قضية فيزيلييه الضوء على العلاقات المتوترة بين باماكو وباريس، فإن واقع الساحل يُفهم أيضًا من خلال الأرقام، التي تكشف حجم الرهانات بالنسبة لفرنسا وضعف موقفها:

  • حوالي 2500 جندي فرنسي ما زالوا منتشرين في غرب إفريقيا بعد الانسحابات من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر. أكبر التواجد الآن في أبيدجان (حوالي 950 رجلًا)، تشاد (انجمينا، المركز العصبي)، وأيضًا في السنغال والغابون.

  • اليورانيوم النيجيري، الضروري لفترة طويلة لصناعة الطاقة النووية الفرنسية، كان يمثل حوالي 20٪ من إمدادات EDF قبل 2023. فقدان هذا النفوذ الاستراتيجي أضعف موقف باريس في سعيها للاستقلال الطاقي.

  • التكلفة البشرية للجهادية ضخمة: وفقًا لمنظمة ACLED، ركز الساحل المركزي (مالي، بوركينا، النيجر) في 2024 نحو 50٪ من ضحايا الإرهاب الإسلامي عالميًا، أي أكثر من 20 ألف قتيل خلال خمس سنوات.

  • أمام الانسحاب الفرنسي، نشرت روسيا (Africa Corps، فاغنر سابقًا) عدة مئات من الرجال في مالي وبوركينا. توفر تركيا طائرات مسيرة ومدربين، بينما تستثمر الإمارات وقطر في القواعد والبنية التحتية.

هذه الأرقام تظهر حقيقة واضحة: الساحل أصبح أحد أكثر المناطق تنافسًا في العالم. بالنسبة لفرنسا، المعادلة بسيطة وقاسية: الحفاظ على نفوذ متراجع بتكلفة سياسية متزايدة، أو قبول انتقال مركز الثقل الأمني إلى قوى أخرى.

خاتمة: باريس تلعب على المكشوف

من بوب دينار إلى يان فيزيلييه، تُروى القصة الإفريقية لفرنسا كسلسلة من الاستمراريات وإعادة الابتكار. الطريقة تتغير — من المرتزق السري إلى الدبلوماسي-الجندي — لكن السؤال الأساسي يبقى: إلى أي مدى يمكن لقوة متوسطة أن تذهب للدفاع عن مصالحها دون تحمل مسؤولية التدخل؟

في هذا الصراع، يبدو أن باريس تلعب الآن على المكشوف. لكن كل ضربة توجهها في الساحل قد تنقلب ضدها: كلما تولى الجيش مهام الجواسيس، تآكلت شرعية الوجود الفرنسي أكثر.