أطلق عليها اسم “الاستنزاف الجماعي” و”الاستسلام العظيم” و”الاستقالات الكبرى“، لكن كل هذه الصفات ليست إلا تلخيصاً لحالة التغير الهائلة التي طرأت على الجامعات المغربية؟!
ارتفعت وتيرة الاستقالات وطلبات الاستفادة من التقاعد النسبي بين أساتذة التعليم العالي والبحث العلمي بالمغرب، مما دفع الوزير المسؤول عن القطاع عبد اللطيف ميراوي لمراسلة المفتش العام للوزارة ورؤساء الجامعات ومسؤولي مؤسسات تابعة لوزارة التعليم العالي، يوصيهم برفض طلبات الاستفادة من التقاعد النسبي والاستقالة التي يتقدم بها الأساتذة الباحثون والأطر الإدارية والتقنيون بمختلف المصالح والمؤسسات الجامعية.
وتحظى الجامعات المغربية باحتضان عصارة الكفاءات والطاقات البشرية الوطنية، الواعدة منها والمحترفة المبدعة، طالبات وطلبة في أوج عطائهم وقمة تجاوبهم وتفاعلهم.
وأساتذة جامعيون وخبراء وباحثون يراكمون خبرات وتجارب وطنية ودولية. لكن بالمقابل فإن النتائج والمردود ضعيف، لا يوازي قيمة الموارد البشرية والمالية التي تصرف سنويا. يمكننا إعطاء النموذج بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء مثلا، التي تحضن أزيد من 120 طالبة وطالب، وأزيد من 20 ألفا من الأطر والعمال والمستخدمين. عدد من الكفاءات قد لا نجده حتى داخل بعض الدول.
واوصت مراسلة الوزير، المسؤولين على ألا تتم الموافقة على هذه الطلبات إلا في الحالات القصوى والمبررة، والتي تتزامن مع تفعيل وزارة التعليم العالي لمخططها الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي، والذي يستوجب تعبئة مزيد من الموارد البشرية بغية أجرأة تنزيله وتحقيق أهدافه المسطرة.
واعترف الوزير بارتفاع “وتيرة هذه الطلبات وأن جل الطلبات المقدمة تم تذييلها بموافقة الرؤساء التسلسليين والهياكل الجامعية المختصة، الأمر الذي أصبح يطرح إشكالا كبيرا، ذلك أن استجابة الوزارة لهذه الطلبات سيؤدي إلى إحداث خصاص كبير في عدد من الأساتذة، والموظفين بالمصالح والمؤسسات الجامعية المعنية”.
وأشار الميراوي الى أن الموافقة على الطلبات “سينعكس بشكل سلبي على نسبة التأطير البيداغوجي والإداري بها، كما أن احتمال لجوء المعنيين بالأمر إلى المحاكم الإدارية من أجل الطعن في حالة رفض طلبات استفادتهم من التقاعد النسبي أو الاستقالة التي حظيت بقبول رؤسائهم، يبقى واردا”.
في الأشهر الأخيرة ، اتسعت دائرة الاحتجاجات بقطاعي التعليم العالي و التكوين المهني بالمغرب، حيث تظمت النقابة المغربية للتعليم العالي اضراب وطني لمدة ثلاثة ايام خلال شهر يونيو الماضي.
لن ننسى أن السلطات المغربية حركا جميع آلاتها من أجل قمع واعتقال الأساتذة المحتجين بمختلف المدن المغربية، وآخرها ما كان في الثالث من مارس/آذار 2022، بمدينة الرباط، حيث تعرض الأساتذة المفروض عليهم التعاقد للقمع والتنكيل والركل والرفس، بعدما جاؤوا إلى الرباط من كل صوب وحدب، تلبية لنداء التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، بغية الاحتجاج أمام الوزارة الوصية، رفضاً لمخطط التعاقد المشؤوم.
ومعلوم أنه مخطط مرفوض بالمطلق، لأنه يتنافى والحق في ولوج أبناء الشعب إلى الوظيفة العامة، كما ينص بذلك الدستور المغربي، بأن كلَّ فرد له الحقّ في ولوج أسلاك الوظيفة العمومية، ومن ثم فإنّ نهجَ نظام العقدة في التعليم يتناقض مع السياسة الشعبية في مجال التعليم العام. إن مطلبنا ومطلب جميع الأساتذة المفروض عليهم التعاقد مطلب شرعيّ يضمنه ظهير شريف، هو الحق في الوظيفة العمومية، وجاء فيه ما يلي:
“ظهير شريف رقم 008-58-1، بتاريخ 4 شعبان 1377 (24 فبراير/شباط 1958) يحتوي على القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية. لكل مغربي الحق في الوصول إلى الوظائف العمومية على وجه المساواة”.
ولكن السياسة الطبقية التي انتهجتها الدولة في إرساء نظام الجهوية المتقدمة، جعلها تبدأ بالتعليم، وكأنه مختبر فئران التجارب، ادّعاء منها بأنها ترغب في توفير عدد من مناصب الشغل للمواطنين، مع الحفاظ على مبدأ المساواة، وظهر جلياً أن المخطط يعارض الظهير الشريف، حيث إنّ الوزارة تسعى إلى خصخصة هذا القطاع، ومن ثم التخلص من الوظيفة العمومية وحرمان أبناء الشعب من حقهم الدستوري.
ترى الوزارة بعيونها القاصرة عن رؤية الحقّ أن التوظيف بموجب عقود يسمح للأساتذة المتعاقدين بالاستفادة من جميع ما يستفيد منه الأساتذة الرسميون، وبدا هذا أن هناك تمييزاً صارخاً وفاضحاً يُكذّب ما تقوله الوزارة، ويؤكد بالأساس هشاشة نظام التعاقد، والظاهر أساساً أنه داخل نظام التعليم، تجد أستاذاً (ة) مرسماً (ة) يؤطره (ا) نظام أساسي للوظيفة العمومية، وأستاذا (ة) فرض عليه (ا) التعاقد يؤطره (ا) نظام الأكاديميات، وهذا وحده كافٍ لرفض مخطط التعاقد المشؤوم، يقول ربيع الكرعي في تصريح لجريدة هسبريس: “هناك أساتذة موظفون يؤطرهم النظام الأساسي الوظيفة العمومية، بينما نحن يحكمنا نظام الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وهذا معناه أننا لا نتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها زملاؤنا المدمجون في الوظيفة العمومية، لكننا ملزمون بأداء الواجبات نفسها”.
ومن هذا المنطلق كان المطلب العام والوحيد والأوحد للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد وراء احتجاجاتهم وإضراباتهم، هو الإدماج في أسلاك الوظيفة العامة بوصفه حقاً مشروعاً، وتنضوي الاحتجاجات والإضرابات التي يقوم بها عموم الأساتذة بموجب عقود تحت لواء التنسيقية الوطنية العتيدة للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد.
وبوصفي أستاذاً فُرض عليه التعاقد أقول إن الحجج التي تُبرر بها الوزارة منطق نهجها لهذا النوع من التوظيف تعد تحججاً واهياً وكاذباً، تظهر معالم كذبه مع الوقت، بحيث يتعرض معظم الأساتذة إلى الطرد والعزل باتصال هاتفي، بالإضافة إلى الإهانة التي نتعرض لها من بعض المديرين والمفتشين، بقولهم: “أنتم فقط أساتذة متعاقدون”.
وما يظهر هشاشة التعاقد أيضاً أنّ في التعليم أساتذةً حصلوا على شهادات الدكتوراه، ولكن لا حقّ لهم في اجتياز مباريات التعليم العالي، لا ذنب لنا في ذلك سوى أننا اخترنا أن نكون أساتذة لتربية وتكوين جيلٍ على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وما زلنا نتشبث بقداسة هذه المهنة التي نتعرض فيها لأبشع مظاهر الظلم، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالقمع المخزني والمطاردات البوليسية التي تطال الأساتذة المفروض عليهم التعاقد.
إن مخطط التعاقد هشّ؛ لأن النظام القانوني الذي يؤطره فيه فراغات وثغرات تشريعية مهولة، نظام تعرض لتغييرات عديدة، تؤكد بوضوح تعمّد الوزارة في فرض هذا النوع من التوظيف، وتوضيحاً لهذه المسألة يقول عبد الله قشمار: “إن استمرار احتجاجاتنا وإضراباتنا ليس حباً في الهروب من الفصول الدراسية أو قصد الاستجمام، بل لأنه منذ فرض هذا النمط من التوظيف لم تتغير الوضعية الوظيفية والإدارية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد. والمدهش في الأمر أن الوضع ازداد سوءاً عن ذي قبل، ولعلنا لو اطلعنا على النظام الأساسي لأطر الأكاديميات الذي تم تفعيل مقتضياته خلال شهر سبتمبر/أيلول 2018، وتم تعديل مواده والمصادقة على ذلك خلال 13 مارس/آذار 2019، سنلمس مدى هشاشة هذا النوع من التوظيف”.
معلوم أن الاستقرار النفسي والاجتماعي والوظيفي للأساتذة هو المدخل الرئيس والأساس لإصلاح قطاع التعليم، ولكن في ظل هذا المخطط المشؤوم فإن الحكومة قد ضربت هذا الاستقرار، وخلقت نوعاً من الخوف والترهيب في صفوفنا العتيدة، واعتبرت الأستاذ أو المعلم مجرد رقم تأجير، ومتى فقد الأساتذة استقرارهم فسيتطرق الكثير من اليأس إلى هذا القطاع، ومن ثم فإنهم يقدمون صورة بأن التعليم غير مرغوب فيه؛ زعماً منهم أنه لا يفيدهم في شيء، وفي التعليم منافع كثيرة لا تظهر للعين التي تقصر عن رؤية الحق.
وسعت الحكومة إلى زعزعة الاستقرار الوظيفي وفق نسق تراكمي هو داء قديم، ووفق نسق توافقي هو داء جديد يضرب في الوظيفة العمومية، يقول آدم الحسناوي: تسعى إلى ضرب الاستقرار الوظيفي، وذلك في إطار ما تم الحديث عنه سابقاً. وقد تم ضرب الاستقرار الوظيفي وفق نسق تراكمي، وذلك منذ سنوات عدة، هذا الضرب الذي لا يهدد اليوم استقرار المدرسين فقط، بل يهدد استقرار المدرسة العامة. واستقرار الأستاذ هو المدخل لإصلاح قطاع التعليم بشكل توافقي، وبعيداً عن التوصيات الخارجية، تلك التوصيات التي لم تر سوى في قطاع التعليم “الفجوة التي ينبغي إصلاحها”.
وبناءً على ما تم ذكره فعوض أن تجلس الوزارة على الطاولة لخلق حوار جاد مع الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد والاستجابة لمطلبنا الوحيد، بإدماجنا في الوظيفة العمومية أسوة مع زملائنا الرسميين، نهجت الدولة بحق الأساتذة المحتجين بالرباط سياستها القمعية المقدسة، الظاهرة في القمع والضرب، والسرقة من الأجور، والاعتقال، وتقديم الأساتذة ظلماً أمام وكيل الملك، بغية اتهامهم وإصدار تهم جائرة بحقهم. مقابلة السلم بالضرب ظلم، والرد على مطالب الأساتذة، المفروض عليهم التعاقد، بنهج السياسة القمعية دليل قاطع على عدم رغبة الحكومة في إيجاد حل ناجع للملف، هو حلّ بسيط وسهل، ونكتبه بخط عريض: “الإدماج في أسلاك الوظيفة العامة” حق مشروع يضمنه الدستور عن بكرة أبيهم.
المصدر : المغرب الآن + عرب بوست