ما بعد الفيضانات: كيف تفضح آسفي هشاشة العمران وتستدعي حكمة القرار الملكي

0
58

في خضم الألم الجماعي الذي خلفته فيضانات مدينة آسفي العزيزة ليلة 14 دجنبر 2025، وتحت التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، أعلنت الحكومة المغربية عن برنامج استعجالي لإعادة تأهيل المناطق المتضررة، يستهدف تقديم دعم شامل للأسر، وترميم المنازل والمحلات التجارية، وإنعاش بنيات المدينة التي شهدت خسائر بشرية ومادية جسيمة.

لكن وراء البيان الرسمي – المؤطر بالانفعال الملكي والحرص على صون كرامة المواطن – تكمن تساؤلات عميقة تتعلق بمدى فاعلية هذا النوع من البرامج في المغرب، ومدى قدرته على تجسيد استمرارية التنمية الحقيقية بدلًا من أن يكون حلًا ظرفيًّا يستجيب وراء وقوع الكارثة فقط.

أزمة آسفي في سياق أوسع: الفيضانات كمرآة لهشاشة التنمية

أظهرت الفيضانات في آسفي أوجه قصور بنيوي في البنية التحتية الحضرية، من شبكات تصريف المياه إلى التخطيط العمراني للأحياء القديمة التي تدفقت فيها السيول بلا استعداد كافٍ. واعتبر بعض الناشطين أن ما حدث ليس “قضاء وقدر” فحسب، بل نتيجة تراكم سنوات من الإهمال والتهميش البنيوي وضعف السياسات العمومية تجاه المناطق الهشة.

هذا الخلل البنيوي في التعاطي مع المخاطر الطبيعية ليس استثناءً في التاريخ المغربي الحديث. ففي زلزال الحوز عام 2023، أُنجز برنامج ضخم لإعادة الإعمار والتأهيل استمر لسنوات، وتمكنت الدولة من إعادة بناء عشرات الآلاف من المنازل والبنى التحتية، غير أنه واجه أيضًا انتقادات حول بطء التنفيذ وتفاوت الدعم على الأرض.

البرنامج الملكي: ما الجديد؟

البرنامج الذي أطلقته الحكومة بآسفي، حسب البلاغات الرسمية، يرتكز على:

  • مساعدات مالية وعينية عاجلة للأسر التي فقدت ممتلكاتها،

  • ترميم وإعادة بناء المنازل المتضررة،

  • دعم أصحاب المحلات التجارية المتضررة لمساعدتهم على استعادة نشاطهم.

الخطاب الرسمي يحرص على استخدام مفاهيم مثل: العناية الموصولة، صون كرامة المواطن، ضمان شروط العيش اللائق، وتقوية الصمود الاجتماعي، وهي كلها تعابير تحمل نبرة إنسانية قوية لكنها تطرح أيضًا سؤالًا أساسيًا: هل تقتصر السياسة العمومية المغربية على التدخلات بعد وقوع الكارثة، أم هناك استراتيجية للوقاية والتقليل من المخاطر باستباقها؟

من الإنعاش إلى الوقاية: الدرس الذي يفرض نفسه

من المنظور الدولي والمحلي، لم تعد مواجهة الكوارث الطبيعية حكراً على التدخل بعد وقوعها، بل تعتمد على تخطيط استراتيجي للوقاية والتكيف مع تغير المناخ. وفي المغرب بالفعل هناك مشاريع تهدف إلى تعزيز المرونة المناخية، على غرار مبادرات لتقوية المناطق الحضرية ضد الفيضانات وتخفيف الآثار الاقتصادية والاجتماعية على السكان الضعفاء.

لكن الممارسة على أرض الواقع تُظهر فجوة بين الخطاب المؤسسي والتنفيذ الفعلي. ففي تجارب سابقة مثل برنامج إعادة الإعمار بعد زلزال الحوز، لوحظ بطء في صرف المساعدات وتسليمها، مما ترك بعض الأسر في انتظار طويل رغم الإعلان الرسمي عن إنجازات ضخمة.

قراءة نقدية: بين المبادرة والإصلاح الهيكلي

إن البرنامج الملكي لإعادة تأهيل آسفي يحمل في طياته روح التضامن والتجاوب السريع مع المواطنين في محنتهم. وهذا بحد ذاته مؤشر إيجابي على حسنة الاستجابة لدى الدولة. ولكن ذلك لا يكفي إذا لم يترافق مع رؤية تنموية طويلة الأجل تُعيد الاعتبار للمدن المتوسطة والهشة التي تُهمل في الخطط التنموية الكبرى.

لا بد من ربط هذا البرنامج بمعالجة أوسع تشمل:

  • خطة وطنية للتصدي لتغير المناخ تشمل تحديث شبكات الصرف والتحكم في مجاري المياه؛

  • إعادة تقييم استراتيجيات التخطيط العمراني في المدن القديمة؛

  • تقوية آليات التنبؤ والتأهب المبكر للمخاطر؛

  • مراجعة دور المجالس المحلية في الوقاية والتدخلات المبكرة.

بدون ذلك، ستظل برامج إعادة التأهيل نوعًا من “الإسعافات الأولية المؤقتة” التي تداوي الجرح دون أن تتعامل مع سبب النزيف الحقيقي.

خاتمة: من ردود الفعل إلى استراتيجية وطنية

أمام مشهد آسفي المؤلم، يبدو واضحًا أن الإنسان المغربي يستحق أكثر من رفعة الأجنحة في اللحظات الحرجة. حقوق الساكنة في بيئة آمنة، بنيات تحتية مقاومة للمخاطر، وعي مجتمعي ومسؤولية حكومية مبنية على الوقاية وليس على إعادة البناء بعد الفاجعة، كلها مفاهيم يجب دمجها في قلب أي مشروع تأهيل.

إن ما يجمع بين تعليمات الملك، ومبادرات الحكومة، والتعبئة الشعبية هو وعي متصاعد بحجم المخاطر الجديدة التي فرضها تغير المناخ والتحضر السريع. السؤال الحقيقي الآن ليس فقط: كيف نعيد بناء آسفي، بل كيف نمنع آسفي القادمة؟ وفي هذا الإطار، لا بد من قراءة هذا البرنامج ليس كتدخل استعجالي فحسب، بل كخطوة أولى نحو إعادة رسم علاقة الدولة بالمواطن والمكان على أسس أكثر صلابة واستدامة.