محاكمة مبديع أمام لحظة الحقيقة: هل ينجح القضاء المغربي في فتح بوابة “استرجاع الأموال المنهوبة”؟

0
156

في مشهد قضائي يختزل سنوات من مطالب المجتمع المغربي بمحاربة الفساد، التمست النيابة العامة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء إدانة محمد مبديع، الوزير السابق والرئيس السابق لجماعة الفقيه بن صالح، مع مصادرة كل الأموال المتحصّلة من جرائم تبديد واختلاس المال العام.

خطوةٌ تبدو في ظاهرها مساراً عادياً للمحاكمة، لكنها تكشف، في العمق، عن تحوّل مهم في خطاب الدولة حول تجريم الفساد وربطه بإرجاع الثروات المنهوبة، بما ينسجم مع تقارير وطنية ودولية طالما دعت المغرب لتشديد الآليات القضائية والمالية في هذا المجال.

بين القانون والممارسة: ماذا تقول الوقائع؟

خلال مرافعته، شدّد نائب الوكيل العام للملك، جمال البوزيدي، على أنّ مبديع لم يكن مجرد منتخب محلي، بل “موظف عمومي مؤتمن على المال العام”، وهو التعبير المفتاحي في القانون الجنائي المغربي الذي يجعل أي إخلال بالأمانة جناية تكتسي خطورة مضاعفة.

وفق عرض النيابة العامة، تتكشف ملامح اختلاس ممنهج عبر صفقات عمومية اتّضح أن جزءاً منها لم يُنجز مطلقاً، أو أُنجز خارج الضوابط، أو تم تغيير وجهتها لتناسب الأهواء والولاءات، لا حاجات المواطنين.
صفقات من قبيل:

  • الصفقة 7/2016: مبالغ كبيرة صُرفت عن أشغال “غير منجزة”.

  • الصفقة 12/2014: تغيير مسار الأشغال دون أساس قانوني، وبحسب “أهواء صاحب المشروع”.

  • الصفقة 4/2013: أشغال رديئة ظهرت عيوبها فوراً، مثل شقوق شارع علال عبد الله.

أما المفارقة التي حجبت كل حدود المنطق، فهي رفع عدد أشجار يجب اقتلاعها من 2 إلى 232 شجرة، مع تحديد 6000 درهم للشجرة الواحدة. هنا لا يعود السؤال: هل وقع اختلاس؟ بل: هل كان الهدف أصلاً تنفيذ مشروع أم اختراع مسارات مالية لتصريف ميزانيات مشبوهة؟

الشراكة في الجريمة: المقاولون داخل دائرة الاتهام

الملف لا يقف عند مسؤولية المنتخب، بل يطال المقاولين بجرم المشاركة في الاختلاس. فحين يقبل مقاول أداءات نهائية عن أشغال يعرف أنها غير موجودة أو منجزة خارج الضوابط، فهو لا يعدّ متضرراً، بل شريكاً كاملاً في جريمة المال العام.

هذا التحليل الذي قدمته النيابة العامة يعيد إحياء النقاش حول العلاقة الملتبسة بين “السلطة المنتخبة” و“اللوبي المقاولاتي”، والتي تشكّل أحد أكبر أبواب الفساد المحلي في المغرب بحسب تقارير المجلس الأعلى للحسابات ومنظمة الشفافية الدولية.

السياق الوطني: هل يدشن القضاء مرحلة جديدة؟

يأتي هذا الملف في ظرف حساس يتقدّم فيه المغرب نحو إصلاحات مرتبطة بالحكامة المالية، وتحت ضغط دولي لتعزيز الشفافية، خاصة في تقارير:

  • مجموعة العمل المالي (FATF)

  • تقارير البنك الدولي حول مناخ الأعمال

  • التقييمات الدورية للمجلس الأعلى للحسابات

كلها تؤكد على نقطة واحدة: لا يكفي تجريم الفساد… يجب استرداد الأموال المنهوبة. وهذا بالضبط ما تطالب به النيابة العامة اليوم: ليس فقط إدانة، بل مصادرة الأموال المتحصّلة من الاختلاس.

هذا التوجّه ينقل النقاش من “مكافحة الفساد” إلى “استرجاع الثروة العمومية”، وهو تحوّل بنيوي يضع المغرب ضمن مقاربات جديدة تتبناها دول صاعدة، مثل رواندا وتشيلي، تعتمد على ربط المسؤولية بالمحاسبة المالية، لا فقط العقابية.

السياق الدولي: المغرب تحت مجهر الشفافية العالمية

قضايا الاختلاس ليست شأناً محلياً. ففي عالم يتجه نحو الرقمنة والشفافية، أصبحت الصفقات العمومية إحدى أهم مؤشرات تقييم الدول.

وضع المغرب ضمن خانة الدول “قليلة المخاطر” اقتصادياً يستلزم:

  • الحد من الفساد المحلي

  • ربط الصفقات بالمراقبة الرقمية

  • استرجاع الأموال المهربة أو المختلسة

وهي متطلبات يؤكد عليها تقرير الأمم المتحدة حول مكافحة الفساد لعام 2024، والذي يشير إلى أنّ الدول التي تعتمد المصادرة كآلية أساسية تعرف تراجعاً فعلياً في نسب الرشوة وضعفاً في الشبكات الإدارية الموازية.

أسئلة مفتوحة… هل يبدأ الإصلاح من الفقيه بن صالح؟

القضية اليوم أكبر من مبديع…إنها اختبار لمدى قدرة المغرب على الانتقال من تشخيص الفساد إلى تفكيك شبكاته.
من يشارك في هذه الصفقات؟
من يوقع؟
من يراقب؟
ومن يستفيد من ثغرات “دفاتر التحملات” كي يحول المال العام إلى ريع خاص؟

وإذا كانت النيابة العامة قد طالبت بإدانة مبديع ومصادرة أمواله، فالسؤال الأعمق يبقى:
هل سيتحوّل هذا الملف إلى نقطة بداية لمسار شامل لاسترجاع الأموال العمومية، أم سيُضاف إلى “الأرشيف” دون أن يُلمس أثره في حياة المواطنين؟

خاتمة

ما يجري داخل محكمة الاستئناف بالدار البيضاء ليس مجرد محاكمة سياسية أو جنائية، بل اختبار لمصداقية الدولة ولقدرة القضاء المغربي على اقتلاع جذور الفساد، لا فقط معاقبة واجهاته.
وإذا ما تم تفعيل مطلب مصادرة الأموال بشكل فعلي، فقد يكون ذلك بداية مرحلة جديدة، تضع المغرب على مسار الدول التي انتقلت من الخطاب إلى الفعل… ومن التشخيص إلى استرجاع ما ضاع من ثروات الشعب.