وسط فوضى السلاح، وتقاطعات الجبهات، وسقوط المدن الواحدة تلو الأخرى، كانت هناك طاولة خفية نُصبت في هدوء مسقط، العاصمة العمانية. هناك، بعيدًا عن ضجيج الإعلام والتصريحات النارية، كانت تُدار مفاوضات حساسة بين النظام السوري وقنوات أميركية عبر وساطات إقليمية — مفاوضات يُقال إنها استمرت حتى أيام فقط قبل “عودة” فاروق الشرع إلى دمشق، في لحظة كان يبدو فيها نظام بشار الأسد على وشك الانهيار، لا على وشك البقاء.
ما روته “المجلة“ بشأن هذه القناة السرية يفرض قراءة عميقة، لأننا لا نتحدث فقط عن محاولة لإنقاذ صحفي أميركي مخطوف — أوستن تايس — بل عن اختبار غير معلن لحدود البراغماتية الأميركية، وقياس مدى مرونة النظام السوري تحت الضغط، وسبر المدى الذي يمكن أن تصل إليه دول مثل عُمان عندما تتحول إلى “وسيط سلام صامت”.
أولاً: لماذا مسقط؟ وما خصوصيتها في النظام العربي؟
تتمتع سلطنة عُمان بتاريخ طويل من الحياد الإيجابي، جعل منها طرفًا موثوقًا لدى الجميع: من واشنطن إلى طهران، ومن دمشق إلى الرياض. لعبت هذا الدور سابقًا في الملف النووي الإيراني، وكانت من أوائل العواصم الخليجية التي رفضت الانخراط في المقاربات العسكرية للحلول السياسية.
لكن هذه المرة، يبدو أن المفاوضات في مسقط ذهبت إلى ما هو أعمق من إطلاق رهائن: كانت تحمل في طياتها تصورًا انتقاليًا جزئيًا، ربما يشمل تنحي الأسد أو تقليص صلاحياته، أو على الأقل ترتيب ضمانات سياسية للأطراف المتصارعة تتيح تجنّب انهيار الدولة السورية.
وهنا يطرح سؤال مركزي نفسه:
هل كانت مسقط تحاول إخراج النظام السوري من عنق الزجاجة دون أن تُحرجه أو تُسقطه، كما فعلت قطر في وساطتها بلبنان عام 2008؟
ثانيًا: فاروق الشرع أو “رجل الفرصة الضائعة”؟
كان فاروق الشرع يُنظر إليه كرجل الدولة داخل النظام — دبلوماسي محنّك، ابن مؤسسة، وليس من رموز الأجهزة. عودته المفاجئة إلى دمشق، متزامنة مع مفاوضات مسقط، أعادت الأمل بإمكانية إنتاج قيادة انتقالية داخلية تحفظ للنظام ما تبقى من مؤسسات، وتمنح السوريين بديلاً مقبولاً.
لكن “العقل الأمني” غلب “العقل السياسي”. غُيّب الشرع تدريجيًا، وصعد نجم اللواء علي مملوك، ما شكّل رسالة بأن النظام قرر حسم المعركة أمنيًا لا سياسيًا، وبأن أي مشروع لحل انتقالي بوجه مدني قد قُبر في المهد.
وهنا سؤال آخر:
هل كانت عودة الشرع مجرد ورقة تكتيكية لإسكات الضغوط الدبلوماسية، لا نية حقيقية للاستفادة منها؟
ثالثًا: واشنطن ومقاربة النصف خطوة… لماذا لم تذهب أبعد؟
تشير التفاصيل إلى أن واشنطن كانت مستعدة للتفاوض — لكنها لم تكن جاهزة لدفع الثمن السياسي الكامل. ففي الوقت الذي كان فيه روجر كارستنس، مبعوث الرئيس ترمب لشؤون الرهائن، يتحرك بين بيروت ودمشق، كان ترمب يهدد في العلن بضرب الأسد.
هذا التناقض كشف مأزقًا أميركيًا أوسع:
-
الرغبة في الخروج من الورطة السورية دون “نصر إيراني”،
-
والتردد في دعم مشروع انتقالي لا يضمن مصالح واشنطن في المنطقة.
وبالتالي، ما حدث في مسقط يمكن فهمه كـاختبار ناعم لفكرة “الإزاحة المتدرجة للأسد”، لا كخطة حقيقية ذات ضمانات تنفيذ. وربما لهذا السبب انهارت المفاوضات: دمشق أرادت رفع العقوبات وسحب القوات الأميركية قبل الحديث عن أي تنازلات. وواشنطن أرادت تنازلات دون مقابل مسبق.
رابعًا: هل فاتت لحظة الحلّ؟ وهل ساهم الانقسام العربي في إجهاض التسوية؟
تكشف هذه المعطيات عن مشهد إقليمي شديد التمزق عام 2017–2020. فبينما كانت سلطنة عُمان تفتح قنوات خلفية للحوار، كانت أطراف عربية أخرى تدفع باتجاه الحسم العسكري أو العزل الدبلوماسي التام للنظام السوري. ومع انسحاب السعودية وقطر من مشهد المبادرات السياسية، تُرك الملف في مهب تنافس روسي–إيراني من جهة، وأميركي–تركي من جهة أخرى.
هنا سؤال مركزي يفرض نفسه على التاريخ العربي الحديث:
هل ساهم غياب موقف عربي موحد – يقترن بوساطة جدية – في تمديد أمد الحرب السورية وتعقيد أي تسوية ممكنة؟
خامسًا: المغرب كنموذج للدبلوماسية الوقائية… وماذا لو لعب أدوارًا خلف الكواليس؟
رغم ابتعاد الرباط الظاهر عن تفاصيل الملف السوري، فإن للمغرب تقليدًا عريقًا في الدبلوماسية الهادئة. فالمملكة – بحكم حيادها تجاه المحاور المتصارعة، وعلاقاتها المتوازنة مع واشنطن، وعواصم الخليج، بل ومع دمشق قبل 2011 – كان بإمكانها أن تساهم في تقوية جبهة الوسط العربي، ذلك الوسط الذي غاب في خضم سباق المحاور.
وربما يحق لنا اليوم أن نسأل:
هل أضعنا – كعرب – فرصة توظيف الدول ذات المصداقية والبعد عن الاستقطاب (مثل المغرب وسلطنة عُمان) في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة السورية؟
وهل يمكن في المستقبل الاستفادة من الدرس السوري لإعادة صياغة “جبهة دبلوماسية عربية مستقلة”، قادرة على استباق الكارثة بدل إدارتها بعد وقوعها؟
سادسًا: كيف تقرأ الرباط التطورات في ضوء تموضع سوريا الجديد؟
مع عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وارتفاع وتيرة الاتصالات الأمنية–الدبلوماسية بين دمشق وعواصم عربية، تجد الرباط نفسها أمام معطى جديد:
-
نظام بقي رغم العقوبات.
-
حضور إيراني لا يزال فاعلًا.
-
تردد أميركي في رسم مسارات ما بعد الحرب.
المغرب، الذي يضع الأمن القومي العربي في صميم سياسته الخارجية، بات معنيًا بطرح السؤال الاستراتيجي:
كيف نعيد صياغة علاقتنا مع سوريا دون الوقوع في ازدواجية خطابية: نرفض النفوذ الإيراني، لكن نعترف بواقع دمشق؟