قصيدة الشاعر الكبير : المكي أبو الشمائل
ريان يا ابن الملايين حبائبا *** سكنت منا الطوايا متربعا،
سكنتها شيقاً ساعة محنةٍ *** مودعاً نحو مثواك مودّعاً.
كم كان يحدونا آمل اللقا *** وأنت حىُّ معافى بِنُهى وعَى.
تواصل الحفر والحزن بحوطة ***وكثرة البذل تهواك منزعا،
في كل قطر نما الحب لطفلنا ***وباهتمام أتى الجهد منوعا،
لعل تفدى فتحيا رجلا له *** مكارم، خلقا يؤتاه لينفعا،
لكنَّ ربك أوحى لملائكٍ *** أنْ اقبضوا اليافعَ الغِرَّ فيرتعاَ،
والوالدان أجورا بك أعطيا *** أغْلَى ثواب، ومنىً معا،
فليس أفضل من جنة ربِّناً *** تُهْدَى لمحتسب الأجر تَخَشُّعا،
في المُنْقذينَ بحفرٍ وبحرصهم ***عليكَ منتشلاً لستَ مقطَّعاً.
بئر معطلة تبتلع الغشيم، كيف تبقى كما الشؤم لتصرعا ؟
صاح الغلام : هلموا، أأمي، أبتي ألا *** فلتنقذوني، وهيهات ! ففزعا،
ومن مدى فزع أسلم روحه *** لله، ثم المنى جاء موزعا…
وعندما وجد الطفل مُمَزَّقاً *** تأوهتْ تحتنا الأرض تَفَجُّعاً،
تأوه الناس والأرض ملامةً *** وحسرةً أن بداَ الطفل مضيَّعاً،
ما قصَّر الناسُ في السَّعى وإنما *** مشيئة الله أقوى قدراً سعى.
وجهٌ بريءٌ لطفلٍ متلألئٍ *** مطهَّرٍ من ذنوبٍ كضحى نعى،
وبالنَّجيعِ، شهيداً وجد المنىَ *** فكان فوزٌ بأن جابها مصرعاً،
ليصبح الوافد الغرُّ لربه *** جاراً يفارق الدنيا مترفعاً،
رجوع طفل إلى الله بطهره *** للخلد بوأ حتى يتمتعا !
إن كان فوق الثرى كثْرُ تنافرٍ *** يسوءنا أنت علَّمت تطبُّعاً،
فَكُنْتَ جامِعَهُمْ وقت تدافع *** والبئر تشهد في الطامة أدمعاً.
فهذه سوف تلغى بتندُّمٍ *** وفي غيابة جبٍّ علمٌ دعا.
شابهت يوسف أن بتَ بها تُرَى *** طفلاً كريماً لتُختار فترفعا،
وعند ربك كم سابغ نعمة *** تعطى، فآوى إلى الغنم لتكرعا،
عش هنالك في أرفع منزل *** ضيفا على الله دوما، فلقد رعى.
كفاك في الأرض أن صرت صفينا *** وأن عَاهِلَنَا ساند مسرعاً،
في والديكَ يناغيك كلاهما *** حنّاَ، فواسى، حنوناً متبرعاً.
ربي فاجعل رياناً فرطاً لمن *** في شدَّةٍ ولدا كى يتمتَّعا…
قالوا نُشيِّدُ نصباً كمنارةٍ *** تُؤْوَى على الجبِّ ذكرى وتورعا،
فقلتُ كلاَّ فلا صحَ عقيدةً *** لأنه الشركُ ضُراًّ متوقعا،
فُرْهُودُنا عند رب،ٍّ ومُنَّعماً *** ما احتاج أدعيةً مثل فتى دعا،
والوالدان ينالان مناهما *** في الأَجْر مُدَّخَرا أَجْدَر،َ أنْفَعَا…
تذييل غير ضروري.
يرجى، مؤقتا على الأقل، حين الاطلاع على هذه القصيدة الشعرية، عدم الاهتمام الكبير بشواردها عموما وبالإيقاع المتبع فيها، إذ أنها نظمت لحينها نظما فوريا يتطلب شكل بعض الكلمات رفعا للإشكال والالتباس، ومراجعة طفيفة لما ورد فيها من صيغ لغوية ومن أفكار هي أيضا وليدة الساعة.
وفيما يتعلق بالشكل، فلا بد في الشعر عادة من شكل بعض الكلمات التي هي موضع إشكال والتباس، لكون الشكل يضمن القراءة الصحيحة لهذه الكلمات، وبذلك يظهر المعنى اللغوي جليا فيرفع الإشكال والالتباس، ولا يختل الإيقاع بسبب الانكسار في الوزن الناتج عن قراءة غير صحيحة، بيد أن الشكل هنا متعذر بسبب خلو لوحة الهاتف المحمول من الحركات أذ بواسطته كتبت هذه القصيدة.
فإن يكن لي الآن من وجهة نظر خاصة تذكر في سبب موت الطفل ريان المأسوف عليه، كما بسطت ذلك شعرا في هذه القصيدة بكيفية عاجلة معتمدة على الإيحاء، فملخص رأيي في الموضوع أن هذا الغلام المسكين لربما مات من جراء آثار الصدمة النفسية والهلع والفزع المتساوقين معها وقت السقوط في تلك البئر المشؤومة، وهو وحيد هنالك على حافتها لا يدري بالخطر المحدق، وبلا منقذ للتدخل في اللحظة الحاسمة، وذلك إضافة إلى الآثار المدمرة القاتلة الناتجة عن الارتطام بقعر البئر بعد السقوط فيها، وفي تلك الأسباب وفي تلك البئر المعطلة، هكذا بدون ردم، كلام طويل يحتاج إلى وقت أطول.
ورغم الأسباب المباشرة للوفاة المأساوية والظاهرة للعيان كتلك التي بينت آنفا، حسب رأيي الخاص، فلا يستبعد ان تكون وفاة الطفل ريان قد حدثت أيضا نتيجة اختناقه بسبب عسر التنفس ( dyspnée ) الناتج عن قلة الأكسجين بقاع البئر ونتيجة الاجتفاف
( déshydratation) لمدة أربعة أو خمسة أيام، ولا أريد أن أخوض في مثل هذه الأمور العلمية التي هي من اختصاص السادة الأطباء.
وأعود الآن، في هذا التذييل أو التعليق المخصص لما لا يمكن التعبير عنه شعرا، فأقول : كم كان مثيرا للإعجاب حقا ذلك الحماس والتدافع لفعل الخير وقت الشدة، وكم كان كل ذلك مدعاة أيضا لمزيد من التضامن والتآخي والإيثار وقت الأزمة، على نحو ما ظهر في كارثة مصرع الغلام ريان بكيفية مأساوية في غيابة الجب، وعلى نحو ما وصفه الكاتب الفيلسوف ألبير كامو Albert Camus في روايته العالمية ” الطاعون” La peste التي لا تنسى !
هذا فضلا عن التنويه الخاطف في القصيدة بالتعاطف والتآزر الضرورين في المدلهمات، ولكن، مع كامل الأسف، فإن شيئا من هذا القبيل غائب وقت اليسر وخارج الكوارث، وهذا الإهمال لا ينبغي بحال في حياة بني آدم على ظهر هذا الكوكب الهرم وفي هذه الدنيا الفانية حيث الحاجة إلى الغير لا تحتاج إلى دليل.
ومن جهة أخرى، فأما الذين لهم إلمام بالعروض، فلا داعى عندهم، بادى الرأى، لمحاولة التعرف على ضابط البحر الذي نظمت عليه هذه القصيدة، لأن البحر هنا مولد، أى أنه غير موجود ضمن بحور الشعر العربي المذكورة في كتب العروض.
ومن الطريف بمكان القول بان توليد البحور الشعرية أثناء نظمي الشعر هو شىء مألوف لدى، كدأبي في كثير من قصائدي، على اعتبار ثراء اللغة العربية التي تتسع أوزانها وموسيقاها لأكثر من الستة عشر بحرا التي قعدها الخليل بن أحمد الفراهيدي والأخفش. وقد سبق لي الإدلاء بهذا الرأى غير ما مرة بيانا لأغراض متعددة.
تحد أرومه في الشعر نظما مع ما في طريقة نظمي من إهمال مقصود لبعض العلل فيه، كل ذلك هو توجه لا أنفك منه بحال طالما بقيت لي صلة بالشعر نظما وقراءة، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل لتنظير مورفولوجيا الشعر العربي الجديد وإيقاعاته التي لا تحصى.