«منع ترشيح المشبوهين: الدولة تحمي البرلمان أم تكشف هشاشة الأحزاب؟»

0
120
صورة : موقع مجلس النواب

لم يكن ظهور عبد الوافي لفتيت أمام لجنة الداخلية يوم 20 نونبر مجرّد إحاطة تقنية حول تعديلات قانونية. بدا المشهد أقرب إلى لحظة مواجهة داخل الدولة نفسها: مواجهة بين رغبة في تخليق الحياة السياسية، وخوف عميق من انحدار صورة المؤسسة التشريعية إلى مستوى لا ينسجم مع المرحلة السيادية التي يعيشها المغرب.

خطاب للوزير كان واضحاً حدّ القسوة: “هدفنا منع وصول أشخاص تحوم حولهم شبهات إلى البرلمان.”

هذه الجملة – بتجريدها من سياقها السياسي – تبدو بديهية، لكنها في الواقع تعكس تراكماً مزمناً في علاقة الدولة بالأحزاب، وفي علاقة الأحزاب بمجتمع فقد ثقته بوسائل الانتقاء السياسي. لذلك، فإن ما يبدو قراراً تقنياً هو في جوهره تعليق سياسي على فشل آليات إنتاج النخب داخل الحياة الحزبية.

أولاً: لماذا وصلنا إلى هذه اللحظة؟

حتى نفهم طبيعة هذا التحول، يجب الاعتراف بأن الشبهات التي يتحدث عنها الوزير ليست وليدة اليوم. فمنذ أكثر من عقد، تتوالى حالات المنتخبين المتابعين قضائياً، بعضهم قبل وصوله للبرلمان وبعضهم بعده. هذه الحالات لم تكن تعبيراً عن خلل فردي بقدر ما كانت نتيجة مباشرة لنهج أحزاب زكّت قوائم انتخابية بمنطق “الأعيان” بدل “الأفكار”.

المشكلة ليست فقط في وجود نواب متابعين قضائياً، بل في أن الشارع صار يعتبر هذا الأمر أمراً عادياً؛ وهو أخطر من وجود الشبهات نفسها.

ثانياً: قانون 53.25… إصلاح أم هروب إلى الأمام؟

القانون التنظيمي 53.25، الذي يعدّ حجر الزاوية في هذا التوجه، يوسّع حالات إسقاط الأهلية ويرفع مدة المنع الناتجة عن الأحكام القضائية. ورغم أن هذه التدابير تبدو تقنية، فإن مضمونها السياسي لا يمكن إخفاؤه:

  1. الدولة تعلن أن الثقة في الأحزاب لم تعد كافية لضمان نظافة اللوائح.

  2. القانون يتحول إلى أداة ضبط سياسي، لا فقط آلية قانونية.

وما قاله الوزير عن “معرفة عدد النواب المتابعين قضائياً” لم يكن تصريحاً عرضياً. كان بمثابة تذكير صريح بأن الدولة تعرف ما لا يعرفه الرأي العام، وأن صبرها انتهى.

ثالثاً: عندما يصبح القانون بديلاً عن السياسة

في البلدان التي نجحت في تخليق الحياة السياسية، تمّ الإصلاح من داخل المؤسسات الحزبية:
– معايير صارمة لانتقاء المرشحين،
– دورات تكوين،
– لجان أخلاقيات،
– مساءلة داخلية.

في المغرب، يحدث العكس:
القانون هو الذي يُصلح الأحزاب، لا الأحزاب هي التي تصلح نفسها.

وهنا تكمن الإشكالية: تحويل “الشبهة” – وهي مفهوم غير قضائي – إلى معيار قانوني قد يفتح الباب أمام سلطة إدارية واسعة تسبق القضاء، ما يخلق توتراً حقيقياً بين مبدأ التخليق ومبدأ الحقوق السياسية.

رابعاً: البعد السيادي… حين يصبح البرلمان واجهة دبلوماسية

تحليلات أكاديميين مثل طارق أتلاتي تكشف جزءاً أساسياً من الصورة. الرجل يعتبر أن هذا التوجه مرتبط بالمرحلة السيادية التي تعيشها المملكة، خصوصاً بعد ترسيخ مشروع الحكم الذاتي في الأمم المتحدة.

من هنا، يصبح السؤال: هل يمكن للدبلوماسية المغربية أن تستمر في تحقيق مكاسبها ببرلمان مليء بالمتابعات القضائية؟

الجواب واضح: لا. …لذلك يمكن القول إن هذا القانون ليس فقط “تخليقاً” داخلياً، بل تهيئة هندسية للصورة المؤسسية التي يعرضها المغرب على الخارج.

خامساً: نقد داخلي… هل هو إصلاح أم انتقاء سياسي مقنّع؟

الكاتب الجامعي عبد الحفيظ أدمينو سبق أن أشار إلى أن الأحزاب نفسها طالبت بالقطع مع “المرشحين المفسدين”، لكن هذا المطلب – رغم شرعيته – لا يخلو من تناقضات:

  • بعض الأحزاب تطالب بالمنع العلني،

  • لكنها داخلياً لا تنتج مرشحين منضبطين أخلاقياً،

  • وتستمر في تفضيل المرشحين ذوي النفوذ المحلي على حساب الكفاءات الحقيقية.

بمعنى آخر: الأحزاب تريد قانوناً يمنع عنها الإحراج، لا قانوناً يدفعها إلى إعادة بناء نفسها.

سادساً: هل يمكن للقانون أن يصنع نخبة جديدة؟

هنا نصل إلى قلب السؤال. إن منع “المشبوهين” لن يخلق تلقائياً نخبة جديدة. قد يمنع الأسوأ، لكنه لن يضمن الأفضل. الإصلاح الحقيقي يتطلب:

  • تكويناً سياسياً،

  • ولادة أحزاب ذات رؤية،

  • مساراً داخلياً للترقي،

  • تمويلات شفافة،

  • آليات ديمقراطية داخلية.

من دون هذه العناصر، سننتقل من مرحلة “مرشحين مشبوهين” إلى مرحلة “مرشحين بلا ملامح”.

سابعاً: من يتحمل المسؤولية… الأحزاب أم الناخب؟

هنا ملاحظة ذكية طرحها أدمينو: الناخب نفسه يتحمل مسؤولية في استمرار لوائح الأعيان. فالانتخابات عند فئات واسعة تُختزل في علاقات محلية وبراغماتية اجتماعية، مما يجعل “شراء الولاءات” مقبولاً، و“شراء الأصوات” ممارسة غير مستغربة.

القانون قد يمنع مترشحاً “مشبوهاً”،
لكن
القانون لا يمكنه أن يصنع ناخباً جديداً.

ثامناً: النموذج المغربي… بين واقعين

نحن اليوم أمام معادلة مركبة:

  • دولة تريد مؤسسات قوية ذات مصداقية خارجية،

  • وأحزاب ضعيفة غير قادرة على إنتاج نخب سياسية.

والقانون يأتي هنا كحلّ وسط: ليس إصلاحاً جذرياً، وليس تجميلاً شكلياً، بل محاولة للسيطرة على ما تبقى من الهوامش.

لكن كل القوانين – مهما بلغت دقتها – ستظل معلّقة ما لم يبدأ الإصلاح الحقيقي داخل الأحزاب نفسها.

خاتمة تحليلية: هل نحن أمام إصلاح أم إعلان فقدان الثقة؟

يمكن اعتبار هذا التشديد التشريعي خطوة إيجابية في اتجاه تخليق الحياة السياسية. لكنه أيضاً يحمل رسالة خفية: الدولة لم تعد تثق في قدرة الأحزاب على إنتاج مرشحين نظيفين.

لذلك، فإن طرح السؤال “هل هو تلبية لمطالب حزبية أم إعلان فقدان ثقة؟” لا يكفي.

السؤال الحقيقي هو: هل يمكن للقانون، مهما شدّد، أن يعيد الثقة إلى مؤسسة تشريعية فقدت بريقها؟ أم أن المغرب يحتاج إلى مشروع أعمق: مشروع لإعادة بناء السياسة نفسها من الأساس؟

الجواب سيُختبر في انتخابات 2026، التي ستكون أول امتحان حقيقي لهذا القانون… وللنخبة التي ستولد منه، إن وُلدت.