لم يكن قرار رئيس الحكومة عزيز أخنوش، القاضي بتعليق حملة مراقبة الدراجات النارية ومنح أصحابها مهلة انتقالية لسنة كاملة، مجرد إجراء إداري عابر يخص فئة محدودة من مستعملي الطريق. بل إن الطريقة التي جرى بها الإعلان عن القرار – عبر تسريب حصري لموقع إخباري – تطرح أسئلة أعمق بكثير من الموضوع نفسه، وتعيدنا إلى صلب النقاش حول أزمة الثقة التي تطبع علاقة المواطن بالمؤسسات في المغرب.
بلاغ غائب وتسريب حاضر
في الأنظمة التي تولي أهمية للتواصل المؤسساتي، كان من الطبيعي أن يصدر بلاغ رسمي من رئاسة الحكومة يوضح خلفيات القرار وأبعاده، ويؤطر النقاش العام بشكل مسؤول. لكن ما وقع هو العكس: لم يكن هناك بلاغ ولا تصريح رسمي، بل مجرد “مصادر مطلعة” سربت الخبر إلى جريدة إلكترونية واسعة الانتشار. هذه المفارقة تكشف عن خلل في إدراك الدولة لأهمية القنوات الرسمية في بناء الثقة، وكأن الرهان اليوم أصبح هو “امتصاص الغضب” لا “توضيح القرار”.
لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟
توقيت القرار لم يكن بريئًا. فالحملة على الدراجات النارية خلقت حالة من السخط الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط اتهامات للحكومة بالبحث عن “جديد الجبايات” بدل معالجة أزمات التعليم والصحة والغلاء. في هذا السياق، بدا أن رئاسة الحكومة اضطرت إلى التدخل لوقف نزيف الاحتقان. غير أن اختيار تمرير الخبر عبر تسريب، بدل تبنيه بوجه مكشوف، يعكس خشية من تحمل المسؤولية السياسية الكاملة، وكأن الحكومة تريد إرسال رسالة مزدوجة: التراجع عن الإجراء دون الاعتراف العلني بالخطأ.
بين القصر والحكومة: من يقرر؟
في الذاكرة السياسية للمغاربة، ظل القصر هو الطرف الذي يتدخل لحسم القضايا التي تمس الاستقرار الاجتماعي أو تثير الجدل الواسع. لكن هذه المرة، بدا وكأن رئاسة الحكومة استبقت الموقف وتدخلت بشكل مباشر. هذا التحول يطرح سؤالًا عن حدود أدوار المؤسسات: هل نحن أمام محاولة من أخنوش لاستعادة جزء من المبادرة السياسية، أم أمام مجرد استثناء فرضته سرعة تدحرج كرة الثلج على شبكات التواصل؟
أزمة تواصل أم أزمة ثقة؟
الواقع أن المشكل لا يقف عند حدود طريقة الإعلان، بل يتجاوزها إلى أزمة ثقة عميقة. فالمواطن المغربي أصبح ينظر بعين الريبة إلى القرارات المفاجئة، ويقرأ فيها دومًا نوايا خفية أو حسابات ضريبية جديدة. وعندما يُعلن عن التراجع عبر تسريب غير رسمي، فإن ذلك يعزز الشعور بأن الدولة لا تتواصل مع الشعب بل تناوره، وأن القرارات لا تمر عبر منطق الشفافية بل عبر “تجريب ردود الفعل” في الشارع الافتراضي.
من واقعة صغيرة إلى دلالة كبرى
قد يبدو ملف الدراجات النارية تفصيلًا ثانويًا في المشهد الوطني المليء بالتحديات، لكن تفاصيل من هذا النوع هي التي تغذي صورة المؤسسات في المخيال الشعبي. حينما تعجز الحكومة عن إصدار بلاغ رسمي حول قرار يهم آلاف المواطنين، فكيف يمكن إقناع الناس بجدية خطاب الإصلاحات الكبرى؟ وحينما يتم التعويل على التسريب بدل التواصل، فذلك يعني أن معضلة “أزمة الثقة” لم تعد مرتبطة بالسياسات فقط، بل بآليات تواصل الدولة ذاتها.
خلاصة
إن ما جرى يختزل مأزقًا مركبًا: حكومة تحاول التخفيف من الاحتقان دون أن تمتلك الجرأة الكافية للتواصل المباشر، ورأي عام يعيش حالة من التوجس من كل مبادرة رسمية. والنتيجة: فجوة متزايدة بين الطرفين، حيث يظل المواطن في موقع المتلقي الملتبس، ويظل صانع القرار أسيرًا لمنطق التسريب لا الشفافية.
وإذا لم يُعاد النظر في فلسفة التواصل المؤسساتي برمتها، فإن أي إصلاحات كبرى ستظل مهددة بفقدان الشرعية الاجتماعية، لأن ما يضيع بين التسريب والبلاغ الرسمي هو أثمن ما يمكن أن تبنى عليه دولة حديثة: الثقة.