“من الرباط إلى غزة: حين يصير التجويع جريمة صامتة وصرخة الشارع ملاذًا أخيرًا”

0
247

في مشهد بدا كترجمة رمزية لألم إنساني يتجاوز الحدود، امتلأت شوارع الرباط بعشرات الآلاف من المتظاهرين، وهم يهتفون ضد “التجويع والإبادة في غزة”، رافعين أعلام فلسطين ومرددين شعارات حادة تُدين الصمت الدولي، وتدعو إلى إسقاط التطبيع. المسيرة، وإن كانت جماهيرية في شكلها، إلا أنها تطرح في عمقها أسئلة ثقيلة عن حدود الموقف المغربي، والعربي الأوسع، في لحظة تُختبر فيها أخلاق السياسة وصدقية المواقف.




بين المشهد والواقع: ما وراء التضامن

الحشود التي تجمعت أمام مبنى البرلمان المغربي لم تكتفِ بإدانة ما يحدث في غزة، بل حمّلت الأنظمة العربية، ومن ضمنها المغرب، مسؤولية “الصمت” و”التطبيع”. شعارات مثل “لا للتجويع.. لا للإبادة” و”فلسطين أمانة والتطبيع خيانة” تكشف عن إدراك شعبي بأن ما يجري ليس فقط عدوانًا عسكريًا، بل شكلٌ من الحرب الاقتصادية والإبادة الصامتة، عبر التجويع الممنهج.

لكن، وسط هذه التعبئة، يبرز سؤال أكثر تعقيدًا: هل يكفي الشارع، وحده، لمواجهة نظام دولي يُطبع الكارثة ويقنن التواطؤ؟

سياق إنساني قاتم: أرقام لا تحتمل التجميل

وفق معطيات حديثة صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، توفي 69 طفلًا بسبب الجوع منذ أكتوبر 2023، وبلغ عدد الوفيات المرتبطة بنقص الدواء والغذاء أكثر من 620 شخصًا، منذ مارس 2025. وتفيد المنظمات الإنسانية مثل “أطباء بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” بأن قطاع غزة يمرّ بحالة مجاعة فعلية منذ إغلاق المعابر بشكل تام من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مارس الماضي.

في مقابل هذا الوضع الكارثي، تبدو مواقف المجتمع الدولي مترددة، وأحيانًا خاضعة لحسابات التحالفات الجيوسياسية. محكمة العدل الدولية دعت مرارًا إلى وقف فوري للحرب ورفع الحصار، دون أن تجد آليات فعلية لتنفيذ قراراتها، ما يطرح تساؤلات حول جدوى القانون الدولي نفسه أمام “الاستثناء الإسرائيلي”.

مغرب رسمي صامت… ومغرب شعبي صاخب

المفارقة الكبرى التي تبرز من خلال هذه المسيرة، وغيرها من التحركات في مدن مغربية، هي وجود فجوة واضحة بين موقف الدولة وموقف الشارع. ففي الوقت الذي تواصل فيه الحكومة المغربية علاقاتها مع إسرائيل تحت غطاء “مكاسب اقتصادية ودبلوماسية”، يظهر المغاربة، بمختلف توجهاتهم، أكثر حدة في رفضهم للتطبيع، وأكثر صراحة في مطالبتهم بقطع العلاقات.

وقد دعا نشطاء وشخصيات سياسية في المسيرة إلى طرد التمثيليات الإسرائيلية، وتجميد جميع أشكال التعاون، مع التشديد على مسؤولية الرباط الأخلاقية تجاه ما يجري، خاصة في ظل ما يصفه البعض بـ”إبادة القرن الواحد والعشرين”.

الجبهة المغربية ودينامية المقاومة المدنية

دعوة المسيرة جاءت من “الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع”، التي باتت تشكّل، منذ سنوات، منصة مدنية وشعبية حية لمناهضة التطبيع والدفاع عن الحق الفلسطيني. هذا يعيد إلى الواجهة السؤال عن دور المجتمع المدني في التأثير على السياسات الخارجية، خصوصًا في قضايا ذات طابع أخلاقي وإنساني يتجاوز الحسابات الدبلوماسية الضيقة.




لكن إلى أي مدى يمكن لهذا الضغط الشعبي أن يؤثر في قرارات عليا ترسمها اعتبارات استراتيجية مع قوى كبرى؟ وهل لا يزال الصوت الشعبي قادرًا على اختراق جدران الواقعية السياسية المغلقة؟

عربيا: وحدة الشارع وتناقض الأنظمة

ما شهدته الرباط ليس استثناءً. ففي شوارع عمان، وتونس، والخرطوم، وبيروت، تخرج احتجاجات مماثلة، رافعةً الشعارات ذاتها، ومنددةً بالخذلان العربي. هذا التوازي بين الشوارع العربية، في وقت تتصاعد فيه وتيرة التطبيع الرسمي، يعكس واقعًا مزدوجًا: شعوب ترفض التطبيع… وأنظمة تغذيه.

تبدو إسرائيل اليوم مطمئنة أكثر من أي وقت مضى إلى هشاشة الرد العربي، في وقت يُعاد فيه تشكيل الشرق الأوسط وفق معادلة جديدة، قاعدتها الأمنية تقوم على “تحييد فلسطين مقابل التعاون الاقتصادي”.

سؤال اللحظة: هل نحن أمام موجة احتجاج عابرة أم مسار مقاومة طويلة؟

في ضوء هذه التحولات، يبقى السؤال الأعمق هو: هل تشكل هذه المسيرات مجرد تنفيس رمزي عن الغضب، أم أنها بداية لمرحلة جديدة من الضغط الشعبي المنظم، القادر على تحويل المزاج العام إلى قوة تأثير سياسي واقتصادي؟

ما يحتاجه التضامن الشعبي اليوم هو الاستمرارية، التنظيم، والربط بالمعركة الحقوقية العالمية. إذ إن معركة غزة لم تعد فقط حول الأرض، بل حول منظومة عالمية تتواطأ مع الجريمة، وتصمت أمام تجويع الأطفال، وتغض الطرف عن الموت البطئ لشعب كامل.

في الختام:

المسيرة في الرباط ليست مجرد حدث عابر، بل هي مؤشّر على تحوّل في الوعي الجمعي المغربي، الذي لم يعد يقبل أن يكون شاهداً صامتاً على حرب التجويع في غزة.
لكن بقدر ما يحمل الشارع صوته عالياً، فإن الرهان الأكبر يبقى على قدرة الشعوب على الانتقال من رد الفعل إلى بناء استراتيجيات ضغط مدني، قانوني، وسياسي، قادرة على فرض التغيير.

فلسطين اليوم لا تطلب فقط التعاطف، بل تطلب الوضوح الأخلاقي والسياسي. وهذا، في زمن التواطؤ الصامت، أصبح نادراً.