من العاصفة إلى المكسب: أوزين يوقّع أول انتصار سياسي في زمن جيل Z

0
194

لم يكن اللقاء الذي جمع الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، محمد أوزين، بكلٍّ من الصحفي حميد المهداوي واليوتيوبر الشاب حمزة الفاضيل، حدثًا إعلاميًا عابرًا كما اعتقد البعض في البداية. لقد كان، في جوهره، حدثًا سياسيًا بامتياز، ومختبرًا رمزيًا لاختبار العلاقة المتوترة بين السياسي المغربي وجيل الشباب الجديد، جيل Z، الذي يفرض اليوم معادلاتٍ جديدة في التواصل والشرعية والوعي.

ففي الوقت الذي اختار فيه عدد من المسؤولين والوزراء الصمت المطبق أمام عواصف “الترند” التي تهزّ الرأي العام المغربي، قرر أوزين أن يخرج إلى الضوء، لا ليُدافع عن نفسه فقط، بل ليحوّل لحظة الاتهام إلى درسٍ في الشفافية والحوار، مستثمرًا أزمته الأخيرة التي فجّرها مقطعٌ “مبتور” من حواره مع موقع إلكتروني، حُمّل فيها كلامه ما لم يقصده.

لكن الرجل، بدل الانزواء أو التصعيد، واجه العاصفة بذكاء سياسي رفيع، فجلس أمام كاميرا المهداوي، وبين يدي الفاضيل، في لقاءٍ وُصف بأنه الأكثر صدقًا وهدوءًا منذ بداية الحراك الرقمي المغربي الأخير.

أوزين في مرمى النار… ثم في قلب النقاش

قبل هذا اللقاء بأيام، كان اسم أوزين يتصدر المنصات الرقمية بشكل مثير، بعد أن انتشر فيديو مجتزأ من سياقٍ أوسع من حديثه مع موقع Le360، بدا فيه كمن يحمّل المغاربة مسؤولية أزماتهم. تلقف بعض خصومه المقطع، وساهمت صفحات مشبوهة في تضخيمه وتدويره، لتتحول “ثوانٍ من التصريح” إلى كرة لهبٍ سياسية وإعلامية كادت تحرق صورته بالكامل.

لكن الرجل لم يتراجع. بل قرأ المشهد بذكاء، وفهم أن الصمت في زمن “المنصات” يساوي الموت الرمزي. فاختار أن يخوض معركة التوضيح بنفس الأدوات التي استخدمها مهاجموه: الكاميرا، المايك، والبث المباشر.

ولم يختر مكانًا رسميًا، بل فضّل فضاءً حرًّا، يديره صحفي مستقل وشاب من جيل المنصات الرقمية، في ما يشبه “التحامًا بين ثلاثة أجيال من الوعي”: السياسي التقليدي، الصحفي الحر، واليوتيوبر المعبّر عن الجيل الجديد.

لقاء بأبعادٍ متعددة

في هذا اللقاء الذي تابعه مئات الآلاف عبر المنصات، لم يكن أوزين في موقع الدفاع، بل في موقع “التفسير المطمئن”. تكلم بثقةٍ نادرة في زمن الارتباك، وشرح، دون انفعال، كيف تمّ اقتطاع كلامه من سياقه، وكيف تحولت الجملة الواحدة إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية.

لكنه لم يتوقف عند ذلك الحد، بل وسّع الدائرة، ليطرح أسئلةً أكبر: من يموّل هذا النوع من التضليل؟ ومن يستفيد من تشويه صورة المعارضين؟

وهنا كان أوزين يُرسل إشاراتٍ ذكية إلى أن ما يجري ليس مجرد “حملة ضد شخص”، بل هو مؤشر على عطبٍ أعمق في منظومة الاتصال السياسي والإعلامي بالمغرب.

الأكثر لفتًا هو أن أوزين لم يتقمص دور الضحية. لم يشتكِ، ولم يتباك. بل خاطب الجمهور بلغة الندّ للندّ، قائلاً ضمنيًا: “أنا هنا، وهذه روايتي، فاحكموا بأنفسكم.”

وهذا الخطاب المباشر — البعيد عن الانفعال وعن لغة البيانات الحزبية الباردة — هو ما جعل اللقاء يتحول إلى حالة تواصلية فريدة في المشهد السياسي المغربي.

المهداوي والفاضيل: جسران نحو جيلٍ جديد

اختيار حميد المهداوي لإدارة اللقاء لم يكن عفويًا. الرجل يمثل نموذج الصحفي المغربي الذي خرج من رحم المعاناة، ويدرك حساسية الكلمة وخطورة المنصات. وجوده منح اللقاء مصداقيةً وجدانية لدى جمهورٍ واسع فقد الثقة في الإعلام الرسمي.

أما حضور حمزة الفاضيل، فقد أعطى بعدًا آخر للقاء: كان اليوتيوبر الشاب صوتَ جيل Z داخل الغرفة. طرح أسئلته بعفوية وجرأة، وتحدث عن “الاحتجاجات الرقمية” وعن غضب الشباب من التفاوت والفساد، دون مواربة.

بين المهداوي والفاضيل، كان أوزين يوازن بحنكةٍ بين خطابين متناقضين ظاهريًا ومتكاملين جوهريًا:

خطاب التجربة، وخطاب الغضب.

خطاب الذاكرة، وخطاب المستقبل.

وفي هذا التفاعل الثلاثي، بدا واضحًا أن اللقاء تجاوز مجرد “توضيحٍ سياسي” ليصبح حوارًا وطنيًا صغيرًا يُعيد الاعتبار لفكرة النقاش الحرّ بين مكونات المجتمع.

تفكيك الرسائل التي مررها أوزين

من يقرأ ما وراء سطور كلام أوزين في هذا اللقاء، يدرك أنه اشتغل بخريطة ذهنية دقيقة.
الرجل لم يترك شيئًا للصدفة.

كل جملة كانت محسوبة بإيقاعٍ هادئ، لكنها مشبعة بالدلالات:

  • عندما قال إن “نفس الصفحات التي تُهاجمه هي التي تُروّج لوزراء ومسؤولين بعينهم”، فقد كان يشير بوضوح إلى وجود آلة دعائية خفية تشتغل بمنطق السوق السياسي والإعلامي.

  • وعندما تحدث عن “ضرورة بناء علاقة جديدة بين السياسي والمواطن”، فقد كان يُعلن ضمنيًا عن قطيعةٍ مع الخطاب التقليدي الذي ينظر إلى المواطن كرقمٍ انتخابي لا كشريكٍ في القرار.

  • أما حين تحدث عن “جيلٍ جديدٍ من المغاربة يريد أن يُسمع لا أن يُلقّن”، فقد كان يخاطب جيل Z بلغته، ويمنحه الاعتراف الرمزي الذي ظل محرومًا منه.

هذه العبارات وحدها كفيلة بتلخيص التحول الذي يقوده أوزين في لغته السياسية: من خطابٍ وصائيّ إلى خطابٍ تشاركيّ، ومن لغة “المسؤول الذي يبرر” إلى لغة “الفاعل الذي يناقش”.

جيل Z والسياسة: صدمة اللغتين

جيل Z المغربي، كما وصفه الفاضيل خلال اللقاء، هو جيل “لا يثق بسهولة، ولا يصبر على الغموض”. نشأ على الشفافية الرقمية، وعلى حق الوصول إلى المعلومة فورًا، وعلى رفض التبرير الفارغ.

وهنا تكمن المشكلة الكبرى: السياسيون الذين لم يتعلموا لغة هذا الجيل خسروا القدرة على مخاطبته، فصاروا بالنسبة إليه رموزًا لعالمٍ قديم فقد شرعيته.

أما أوزين، فقد أدرك هذه المعادلة مبكرًا. فهم أن الكاميرا لم تعد خصمًا، بل وسيطًا جديدًا لبناء الجسور. وأن لغة السياسة الجديدة ليست البلاغة ولا الخطب، بل الصدق الموثق بالصورة والصوت والاحترام المتبادل.

ولهذا بدا في اللقاء كمن يتحدث من قلب هذا الجيل، لا من فوقه. لقد نجح في أن يبدو “سياسيًا رقميًا” دون أن يفقد هيبته، و”قائدًا تقليديًا” دون أن يبدو منفصلًا عن الواقع. وفي ذلك تكمن قوته.

من أزمة مقطع إلى معركة الوعي

ما فعله أوزين في ذلك اللقاء لم يكن مجرد دفاع عن شرفٍ شخصي، بل عملية تحويلٍ رمزية لأزمة التضليل إلى درسٍ جماعي في الوعي الإعلامي. لقد فتح النقاش حول أخلاقيات المهنة، وحول حدود التلاعب بالتصريحات في زمن القصّ واللصق، وحول مسؤولية الصحافة في حماية المعنى لا تشويهه. حين قال إن “المشكل ليس في النقد بل في النية التي وراءه”، كان يُحاول وضع خط فاصل بين النقد المشروع والتشهير الممنهج.

وفي هذا التفريق، قدّم درسًا مزدوجًا: للصحافة أولًا، وللسياسيين ثانيًا. فلأول مرة منذ سنوات، يتحدث زعيمٌ حزبي مغربي بهذه الصراحة عن تواطؤ الإعلام مع دوائر المصالح، دون أن يسقط في خطاب المظلومية أو الشعبوية.

إعادة تموضع المعارضة

من جهةٍ أخرى، لا يمكن فصل هذا اللقاء عن مسار أوزين داخل الحركة الشعبية. منذ توليه الأمانة العامة، وهو يعمل على إعادة تموقع الحزب في ساحةٍ سياسية تهيمن عليها الضبابية والتعب، محاولًا أن يُعيد للمعارضة المغربية صوتها المتزن.

اللقاء الأخير كان جزءًا من هذه الإستراتيجية: أن تتحول الحركة الشعبية من حزبٍ يوصف بـ”الكلاسيكي” إلى حزبٍ يُخاطب الشارع والشباب بلغتهم، بلا وسائط.

لقد قدّم أوزين في هذا الحوار صورة “المعارضة المسؤولة” التي لا تكتفي بالرفض، بل تقترح وتناقش وتسمع. وهذه هي الرسالة الأعمق في ظهوره: أن المعارضة ليست نقيض الدولة، بل صمام الأمان ضد فقدان البوصلة.

بين السياسي والإنسان

بعيدًا عن التحليل السياسي، كان اللقاء أيضًا لحظة إنسانية بامتياز. ظهر أوزين كبشرٍ يتألم من الظلم، لكنه يملك من الصبر والحكمة ما يجعله يبتسم وهو يروي كيف تمّ تشويهه. هذا البعد الإنساني هو ما جعل جمهوره يتفاعل معه بحرارةٍ على المنصات.

فالمغاربة، في نهاية المطاف، لا يكرهون السياسيين لأنهم سياسيون، بل لأنهم يتصرفون كآلات.
وحين يرون أحدهم يبوح بضعفه بصدقٍ وكرامة، فإنهم يعيدون اكتشاف السياسة كفضاءٍ للإنسان، لا للخطط والمناورات.

من التضليل إلى التجديد

يمكن القول إن محمد أوزين خرج من هذا اللقاء رابحًا على كل المستويات.

ربح صورة السياسي الذي لا يهرب من النقاش.

وربح احترام جيلٍ جديد لم يكن يثق بالأحزاب.

وربح معركة المعنى، حين جعل من التضليل الإعلامي موضوعًا وطنيًا للنقاش، بدل أن يكون أداة لاغتياله الرمزي.

لقد “طفا” على نيران الفتنة ببرودٍ محسوب، ثم “أشعل” في المقابل شرارة الوعي. ذكّر الجميع أن السياسي ليس بالضرورة عدوًا للمجتمع، وأن النقد لا يكون بقطع الرؤوس بل بفتح الحوار. وفي ذلك، ربما، أعاد أوزين تعريف معنى الزعامة في زمنٍ فقد فيه هذا المفهوم بريقه.

خاتمة: لحظة وعي جماعي

اللقاء الثلاثي بين أوزين والمهداوي والفاضيل سيظل لحظة فارقة في الذاكرة السياسية والإعلامية المغربية. ليس فقط لأنه كشف الوجه الآخر لرجلٍ حاول البعض تشويهه، بل لأنه فتح أفقًا جديدًا في علاقة السياسة بالإعلام، والإعلام بالجيل الجديد. لقد أظهر أن الحوار لا يزال ممكنًا، وأن الجسور يمكن أن تُبنى حتى في لحظات الغضب.

إن المغرب يعيش اليوم تحوّلًا عميقًا، حيث يتحرك الشباب خارج قوالب الأحزاب والنقابات، ويصنع رأيه من خلال الفيديوهات والمنصات لا عبر الخطب. وفي خضم هذا التحول، ظهر أوزين ليقول إن السياسي الحقيقي ليس من يرفض هذا الواقع، بل من يفهمه ويتكيف معه.

وهكذا، خرج أوزين من التجربة لا كضحيةٍ لفيديو مُقتطع، بل كـ رمزٍ لزعيمٍ اختار أن يُصغي بدل أن يُلقّن، وأن يُحاور بدل أن يُهاجم، وأن يبني بدل أن يُبرر.