من القاضي إلى الوزير… حين تصبح قضية المهداوي مرآةً لصراع أعمق

0
135

“الصحافة مش بيها نكذبوا على الناس ونشتموهم… حرية الصحافة ماشي كارت بلانش”، قالها وزير العدل عبد اللطيف وهبي بصوته المرتج، وعباراته المتقطعة، في تعليق نادر على واحد من أكثر الأحكام القضائية إثارةً في الساحة الإعلامية المغربية: سنة ونصف سجنًا و150 مليون سنتيم ضد الصحافي حميد المهداوي.

لكن هل كانت تصريحات الوزير مجرد تبرير قانوني؟ أم اعتراف ضمني بصراع شخصي؟ أم أنّ الأمر يتجاوز كل ذلك ليكشف عن تصدّع صامت بين الدولة والصحافة في المغرب؟

مشهد أول: الوزير يتكلم… ولكن أي وزير؟

حين سُئل عبد اللطيف وهبي عن رأيه في الحكم الصادر ضد حميد المهداوي، لم يتردد. أطلق العنان لعبارات غاضبة، وأعاد تذكيرنا بأن خلف الأرقام القضائية هناك أحقاد قديمة، مشاعر متأججة، وتاريخ من السجال مع صوت نقدي مشاغب. بدا الوزير كمن يُحاكم المهداوي مجددًا، لا على الورق، بل أمام الرأي العام.

تحدث عن “الإهانة” التي تعرض لها، عن “الكذب”، عن “أطفاله”، عن تفاوض سابق حول “أرض مقابل سلام”، وكأننا لسنا أمام مسؤول في وزارة العدل، بل أمام طرف في نزاع شخصي لم يُغلق بعد.

وهنا تبرز المفارقة: هل يمكن لوزير عدل في حكومة ديمقراطية أن يكون خصمًا وشاهدًا وحَكمًا في آن واحد؟

مشهد ثانٍ: قضية المهداوي… رمزية أكبر من الحكم

القضية ليست جديدة. حميد المهداوي، الصحافي الذي لا يخفي خصومته للسلطة، سبق أن أدين في سياقات سابقة، أبرزها على خلفية تغطية حراك الريف. لكن الحكم الأخير — سنة ونصف وغرامة مالية ثقيلة — يعيد طرح أسئلة جوهرية:

  • هل أُدين بسبب خطأ مهني محدد أم بسبب “نمط” في اشتغاله الصحافي؟

  • هل نحن أمام تطبيق نزيه للقانون أم توظيف انتقائي له؟

  • هل الصحافة أصبحت مزعجة إلى هذا الحدّ، حتى تُواجه بالردع بدل النقد؟

تصريحات وهبي لم تروّج فقط لرواية قضائية. بل كشفت — دون قصد ربما — أن ما يجري أبعد من حدود المحكمة. الحديث عن محاولات “إغلاق الموقع” و”تشريد مقاولة إعلامية” و”الملف الذي طوي بالتفاوض” يوحي بأن منطق “الأرض مقابل السلام” — وهي العبارة التي استخدمها الوزير — صار يمتد إلى الحقل الإعلامي أيضًا.

مشهد ثالث: حرية الصحافة… المعلّقة بين القانون والغضب

في رده، لم ينكر وهبي صراحةً وجود تضييق على حرية الصحافة، لكنه لم يُخفِ كذلك قناعته بأن “الصحافة تجاوزت حدودها”.
قالها بوضوح: “عندكم الحق تشتموا الناس وتكذبوا عليهم؟”

هنا تتداخل ثلاث مستويات:

  • مستوى قانوني: الوزير يشير إلى أن المهداوي لم يُتابع تحت قانون الصحافة، بل تحت القانون الجنائي. لكن لماذا؟ من يحدد الإطار القانوني للمحاسبة الصحافية؟ وهل هناك تمييز بين “الخطأ المهني” و”الجريمة” في الصحافة؟

  • مستوى سياسي: الخطاب لا يخلو من توظيف رمزي لتأديب المعارضين، والرسالة واضحة: الصحافي الذي يخرج عن “المقبول”، قد يدفع الثمن، لا فقط كفرد، بل كمؤسسة أيضًا.

  • مستوى أخلاقي: وهبي بدا وكأنه ينتصر لـ”أخلاقيات المهنة”، لكنه نسي أن في موقعه، الدفاع عن حرية التعبير مقدّم على الدفاع عن مشاعره الشخصية.

ما لم يُقال بعد: القضاء تحت المجهر؟

الوزير يحاول في كل مرة التذكير أنه لا يتدخل في القضاء. لكن الخطاب نفسه يفضح هشاشة هذا الفصل.

حين يقول وهبي إنه لا يعلم إن كان المهداوي سيتنازل أو لا، ثم يضيف: “كل شخص عندو الحق… لكن لماذا لا يتنازل؟” فنحن لسنا أمام حياد وزاري، بل أمام تحفيز ضمني على “تسويات” خارج المحكمة.

ما الذي يجعل السلطة تتدخل بلغة عاطفية في ملفات يُفترض أن تُترك للقضاء؟ ولماذا كل هذا الإصرار على حصر حرية الصحافة في إطار “السلوك الجيد” لا إطار “النقد المشروع”؟

الأسئلة الأهم:

  • هل يحق لوزير العدل أن يتحدث عن قضية ما زالت أمام النقض؟

  • هل ما قاله وهبي يكشف عقل الدولة؟ أم رد فعل رجل جُرح في كبريائه؟

  • كيف يمكن الحفاظ على استقلالية الصحافة حين تكون السلطة هي الخصم والحَكم؟

  • وهل الإعلام مطالب اليوم بمراجعة لغته، أم أن الدولة مطالبة بمراجعة علاقتها بالصحافيين؟

خاتمة مؤقتة:

ليست هذه أول مرة يجد فيها حميد المهداوي نفسه في مواجهة القضاء. لكنها ربما المرة الأولى التي يتحدث فيها وزير العدل بهذا القدر من الصراحة والانفعال عن قضية ما زالت مشتعلة.

لقد كنا أمام وزير لا يخفي شعوره بالخذلان، صحافي لا يتراجع، وقضاء لم يقل كلمته الأخيرة.

أما القارئ، فعليه أن يتذكر: في المغرب، ليست كل المعارك تُخاض في قاعات المحكمة. بعضها يبدأ من الميكروفون… ولا ينتهي عند الوزير.