من قطر إلى قلب المغاربة: نجاح المنتخب الوطني يعكس رؤية الملك الثاقبة

0
146

في الظاهر، قد تُقرأ برقية التهنئة الملكية الموجهة إلى المنتخب الوطني المغربي المتوج بكأس العرب (قطر 2025) بوصفها تقليدًا بروتوكوليًا مألوفًا، يواكب كل إنجاز رياضي وطني. غير أن القراءة التحليلية المتأنية، خارج منطق الخبر العاجل وسرد الوقائع، تكشف أن النص الملكي يتجاوز التهنئة ليؤسس لمعنى أعمق، يربط الرياضة بالسياسة الرمزية للدولة، وبالهوية الجماعية، وبصورة المغرب في محيطه العربي والدولي.

فالبرقية، في بنيتها ودلالاتها، ليست مجرد رسالة فرح، بل هي خطاب سياسي–ثقافي مكثف، يعيد تثبيت موقع كرة القدم داخل المشروع الوطني الشامل. حين يتحدث جلالة الملك عن “إضافة ثاني لقب في سجل المشاركات” وعن “تعزيز المكانة المشرفة لكرة القدم المغربية”، فإنه لا يكتفي بتثمين نتيجة رياضية، بل يضع الإنجاز في سياق تراكمي، يراكم الرمزية ويؤكد الاستمرارية، لا الصدفة. هنا، تتحول الكأس إلى مؤشر على مسار، لا إلى لحظة عابرة.

اللافت في البرقية هو هذا التوازن الدقيق بين الإشادة باللاعبين، والاعتراف بدور الأطر التقنية، والتنويه بالجماهير. ثلاث دوائر تتكامل: الأداء في الميدان، البناء خلف الكواليس، والدعم الشعبي في المدرجات. هذه الثلاثية ليست اعتباطية، بل تعكس تصورًا شموليًا للنجاح، يقوم على العمل الجماعي والمؤسساتي، لا على البطولة الفردية أو اللحظة الانفعالية. في هذا المعنى، يمكن قراءة البرقية كدرس غير مباشر في الحكامة: لا إنجاز دون تأطير، ولا تأطير دون كفاءات، ولا كفاءات دون حاضنة مجتمعية تؤمن بالمشروع.

كأس العرب ليست صدفة: قراءة في لقب كُتب تحت المطر

ومن زاوية اجتماعية أعمق، يكتسب حديث جلالة الملك عن “الغيرة الوطنية” و“التشجيعات الحماسية” دلالة تتجاوز كرة القدم. فالجمهور، كما يُقدَّم في البرقية، ليس كتلة عاطفية فقط، بل فاعل رمزي، يساهم في صناعة الصورة الجماعية للمغرب. الجماهير المغربية، التي بات حضورها لافتًا في التظاهرات الدولية، تتحول هنا إلى جزء من القوة الناعمة للدولة، وإلى نموذج سلوكي يُحتفى به ويُقدَّم كمرجع. هذا الاعتراف الرسمي بالجمهور يعيد الاعتبار للبعد الثقافي للرياضة، بوصفها ممارسة اجتماعية تعكس قيم الانضباط، والاعتزاز، والانتماء.

أما سياسيًا، فإن اختيار عبارات مثل “الحضور القوي في المشهد الدولي” و“الطاقات والكفاءات العالية التي تزخر بها بلادنا” لا يمكن فصله عن السياق العام الذي يسعى فيه المغرب إلى ترسيخ صورته كدولة صاعدة، تستثمر في الإنسان قبل البنية، وفي الكفاءة قبل الشعارات. الرياضة، في هذا الإطار، تصبح مرآة لخيارات استراتيجية أوسع، تمتد من الدبلوماسية إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى التعليم.

ولا تقل خاتمة البرقية أهمية عن مضمونها، حين يربط جلالة الملك التتويج بمسؤولية الاستمرار، وبمواصلة “السعي الدؤوب من أجل رفع العلم الوطني شامخًا”. هنا، ينتقل الخطاب من التهنئة إلى التكليف الرمزي: الإنجاز ليس نهاية الطريق، بل بدايته. النجاح يُحتفى به، نعم، لكنه في الآن نفسه يُحمِّل أصحابه مسؤولية الحفاظ على المستوى، وتأكيد الاستثناء، وتجنب السقوط في منطق الاكتفاء.

بهذا المعنى، تبدو برقية التهنئة وثيقة سياسية مصغّرة، قصيرة في حجمها، لكنها كثيفة في إشاراتها. لا تعد، ولا تبالغ، ولا تدخل في التفاصيل التقنية، لكنها ترسم الإطار العام: رياضة وطنية مرتبطة بالهوية، بالعمل، وبالصورة الدولية للمغرب. إنها رسالة إلى المنتخب، وإلى المؤسسات، وإلى المجتمع، مفادها أن كرة القدم لم تعد مجرد لعبة، بل صارت أحد تعبيرات المشروع الوطني في زمن تتقاطع فيه الرموز مع المصالح، والنتائج مع المعاني.