يطرح فساد منظومة أسعار المحروقات بالمغرب معضلة سياسية وتشريعية وأخلاقية، فقد استولت شركات المحروقات بدون وجه حق على مبالغ مالية طائلة وظلت معالجة البرلمان والحكومة قاصرة عن حماية المواطنين من هذا التجاوز، بل إن هذه المعالجة سمحت بتغول لوبي شركات المحروقات على المواطنين.
تواصل ارتفاع أسعار الوقود في المغرب، ما خلف استياء لدى المواطنين ومهنيي النقل، خاصة بعد أن تجاوز سعر الغازوال ثمن البنزين (بلغ 15 درهما أي ما يعادل دولارا ونصف تقريبا) وهو ما وُصف بـ”السابقة”.
قال رشيد حموني، رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب (معارضة)، إن فريقه قدم مقترحا للحكومة، كي تتدخل وتتخذ إجراءاتٍ ممكنة، لمواجهة أزمة أسعار الوقود في البلاد، مثل التخفيض من مختلف الضرائب المفروضة على استهلاك المحروقات، والعمل على إعادة تشغيل شركة “لا سامير” بالنظر إلى دورها الاستراتيجي في الأمن الطاقي الوطني، وكذا استعمال العائدات الإضافية التي توفرت للميزانية العامة خلال فترة الأزمة، في دعم هذه الأسعار، وفرض تقليص هوامش الربح الفاحش على شركات المحروقات.
وأوضح حموني، أن فريقه قدم مقترحا للحكومة، كي تتدخل وتتخذ إجراء ات ممكنة، لمواجهة أزمة أسعار الوقود في البلاد، مثل التخفيض من مختلف الضرائب المفروضة على استهلاك المحروقات، والعمل على إعادة تشغيل شركة “لا سامير” بالنظر إلى دورها الاستراتيجي في الأمن الطاقي الوطني، وكذا استعمال العائدات الإضافية التي توفرت للميزانية العامة خلال فترة الأزمة، في دعم هذه الأسعار، وفرض تقليص هوامش الربح الفاحش على شركات المحروقات.
واعتبر ئيس فريق حزب “الكتاب” بمجلس النواب، أن الحكومة اكتفت بالإعلان عن نيتها إعداد مشروع قانون يتعلق بمقايسة أثمنة “النقل الطرقي وأسعار المحروقات”، مُستجيبةً بذلك لضغوطات أرباب شركات النقل، مشيرا إلى أن نظام المقايسة يعني أنَّ أسعار وتعريفة النقل ستزداد تلقائيا كلما فاق سعر اللتر من الغازوال مبلغا معينا.
وتساءل حموني في تدوينته، عن “عن هوية الدولة الاجتماعية التي بَــشَّرَت بها الحكومة، وهي التي، بهكذا قرارات، تزيد في تعميق الجراح الاجتماعية، وتصب الزيت على النار، وتعمل على إثقال كاهل عموم المواطنات والمواطنين، من خلال الشرعنة القانونية للزيادات في أسعار النقل، وذلك فقط من أجل إرضاء فئة أرباب الشركات الكبرى”.
وأكد المتحدث، أن الإصلاح والمقايسة يجب أن يكونا في صالح الجميع، ولفائدة كافة الفئات والشرائح والطبقات والأسر والمقاولات، مشددا على أن دون ذلك، تكون الحكومة “لا تقوم سوى بخدمة الرأسمال على حساب الإنسان، وهو أمر غير مقبول في جميع الظروف، ولا سيما في هذه الظروف الصعبة الحالية”.
كيف يحمي القانون الفساد بالمغرب؟!
كثيرة هي الأحداث والقضايا التي فُتحت بشأنها تحقيقات في المغرب ولم تُعرف نتائجها أو لم تتابع بما يرتب المسؤوليات ويستدعي اتخاذ المتعين خاصة حينما تكون من ورائها أجهزة الدولة الأمنية أو الإدارية أو القضائية، أَمَا وأنَّ ملفًّا يُفتَح للبحث فيه من قبل مؤسسة ممثلي الشعب ولا يجد طريقه إلى المسار الصحيح فذلك أفدح الأمرين.
فقد شكَّل مجلس النواب المغربي، في صيف 2017، لجنة برلمانية حول مهمة استطلاعية لأسعار بيع المحروقات السائلة للعموم وشروط المنافسة بعد قرار تحرير القطاع، غير أن هذه اللجنة تأخرت في الانتهاء من عملها؛ إذ أودعت تقريرها النهائي فيما يناهز سنة تقريبًا. والمهم أن جلسات الاستماع والزيارات الميدانية التي قامت بها أثبتت بشكل ملموس وجود فساد منظومة أسعار المحروقات. غير أن الواقع القانوني والعملي فنَّد كل إمكانية لهذه اللجنة للذهاب بعيدًا في مسار وقف الفساد في قطاع المحروقات بعدما لم يعد هذا الأخير إحدى الدوائر المعتمة؛ حيث تمكن البرلمان من أن يعلم الكثير عن كيفية إدارتها.
وإذا كان تحمُّل المواطنين لتكلفة أي فساد عاملًا مساعدًا في استمراريته، فإن محاولة فهم الفساد في قطاع المحروقات وقدرته على الاستمرار حتى مع صدور ومناقشة تقرير اللجنة البرلمانية لا يمكن أن تجد صداها إلا في البنية التشريعية المتسامحة مع المعتدين على جيوب المواطنين وذلك في ظل ذهنية الربح السريع وضعف الضبط القانوني لحافز الربح.
فعلى الرغم من أن القصة الرسمية للجنة البرلمانية كشفت عن فساد منظومة أسعار المحروقات من خلال المبالغ المالية التي استولت عليها الشركات بدون وجه حق، إلا أن تعامل البرلمان والحكومة على السواء مع قضية الفساد هاته قد سحبها لإطار السجالات والدعاية السياسية لا غير.
إذن وفي ضوء ذلك كيف سمحت البنية التشريعية بحماية مصالح خاصة غير مشروعة للوبي شركات المحروقات على حساب انتهاك القدرة الشرائية للمواطنين؟
اقتراب نظري للفساد في القطاع الخاص وعلى تخوم علاقته بمؤسسات الدولة
بصرف النظر عن صعوبة تعريف الفساد من الناحية القانونية، حيث تدرجه الأنظمة القانونية ضمن جرائم الكتمان، فإن “الفساد في مفهومه السوسيولوجي العام هو كل سلوك فعلًا كان أو امتناعًا يتعارض مع ما يجب أن يتحلى به الشخص من أمانة ونزاهة في ممارسته لوظيفة حكومية، أو في القطاع الخاص أو لمهنة حرة على نحو ما ينظمه القانون والمدونات الأخلاقية المهنية، وبصفة عامة كل ما يتعارض مع المصلحة العامة”.
وإذا كان الفساد قد ارتبط في الأذهان بالاعتداء على المال العام في صور عديدة ومتنوعة، فإنه يقع أيضًا في ممارسات القطاع الخاص…؛ حيث يمثِّل الفساد في حقيقته مجموعة من الممارسات، أهمها: الرشوة، والاختلاس، والكسب غير المشروع المقرون بالغش، ولعل هذا الأخير هو أبرز تجل لفساد القطاع الخاص؛ حيث “يمكن للاحتيال في الشركات التجارية أن يشبه الفساد من حيث السلوك، وقد يرتبط به من أوجه متعددة. في قطاع الأعمال، قد تكون الثروة والسلطة هي الشيء ذاته من حيث الجوهر. إن إساءة الائتمان في القطاع الخاص قد تشير إلى تدهور النسيج الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع”.
وبخلاف الفساد في القطاع العام والذي يمكن أن يكون فرديًّا أو مؤسسيًّا بحسب التمييز الذي وضعه دينيس تومبسون (Dennis F. Thompson)، فإن الفساد في القطاع الخاص لا يجري سوى في المؤسسات خاصة حينما يمارَس في مستويات أعلى ودوائر مالية أكبر ضمن ما يسمى “الفساد الكبير”، وبالتالي يكون إضراره بالمواطنين وبالمصلحة العامة أكبر، وهو ينتشر في البيئات التي تفتقر إلى الشفافية والوضوح وتتسم علاقاتها بالغموض وتتهرب من تبعات الإفصاح، سيما مع ظهور أشكال جديدة للفساد مراوِغة وذكية، وحيث مواجهتها ينبغي أن تتسلح بالفاعلية في المكافحة.
فلقد تحول الفساد من حالات استثنائية محدودة إلى أسلوب إدارة يهدد بأزمات وانسدادات بنيوية عميقة على الدول، فلم تعد القوانين عائقًا أمام ممارسات المفسدين الذين شحذوا القوة والنفوذ لاقتناص الدولة، وأصبحوا قادرين على توقيف الأطراف والقوانين المعادية لهم وإعادة تشكيلها بما يجعلها خادمة لمصالحهم، فنصل إلى فساد بالقانون وليس فسادًا بمخالفة القانون. هكذا، تفرض دينامية العلاقة بين الفساد وحكم القانون صراعًا وجوديًّا بينهما؛ فالفساد يحول دون تبني قوانين تحد من مضاره، ويعمل على إضعاف المؤسسات المولجة بالتطبيق الفاعل للقوانين القائمة.
ويأتي ذلك في سياق الانتقال من فساد الحكم إلى الحكم بالفساد؛ إذ في الوقت الذي تمثل فيه الأطر القانونية عاملًا حاسمًا في مكافحة الفساد فإنها تمثل في بعض الحالات تحديًا حقيقيًّا لملاحقة الفساد، فالتشريع الذي يُنتظر منه أن يكون في مقدمة أدوات محاربة الفساد هو نفسه قد يُعتبر أحد العوامل المقنِّنة له على نحو ما؛ حيث قد يسهم تارة في تهيئة فرص ارتكاب الفساد، وتارة أخرى قد يحد من إمكانيات محاصرته، وبهذا يضطلع القانون بدور ملتبس في مكافحة الفساد وهذا الالتباس هو الباب الخلفي لشرعنة الفساد.
و”القانون، كما علَّمنا علماء الاجتماع، لا يمكن أن يكون إلا انعكاسًا مهمًّا –سواء كان جزئيًّا أو ناقصًا- للمجتمع الذي يطبق فيه، وإذا كان في المجتمع تناقضات أصيلة فإنها ستجد نفسها ظاهرة بوضوح على نسيج القانون”، وهو ما يمكن أن نعبِّر عنه بـ”الحماية القانونية للفساد” والتي توافق المفهوم القمعي لقوى القانون كما بلوره “كارل ماركس” حينما اعتبر أن القانون مجرد نظام قمعي للحفاظ على امتيازات طبقة الملاك؛ حيث التحالف الأسود بين الأقلية الثروية والأغلبية البرلمانية المشرِّعة هو ما يتيح للفساد القدرة على التحايل أو المخاتلة. وبهذا، “يُعزى تفشي الفساد إلى خرق معيار النزاهة، وسعي الأنظمة إلى فرض مؤسسات وقواعد ملائمة لمصالح الأثرياء”.
وطبقًا لنظرية الفساد النسقي أو المنظَّم وليس العرضي، أي الفساد كنظام مستقل بذاته يحمي مصالحه، تحول القطاع الخاص من فاسد إلى مفسد، حيث من جهة لا يشتغل السوق من دون توظيف الفساد، ومن جهة أخرى يمارس القطاع الخاص نفوذه على السلطات العامة في اتجاه بنينة السوق لخدمة الأقلية الاقتصادية الاحتكارية، وهكذا يصبح الفساد سببًا ونتيجة في نفس الآن؛ إذ “في تقاليد النظرية السياسية، الفساد هو مرض في الجسم السياسي مثل فيروس يغزو الجسم المادي؛ حيث قوى الفساد المعادية تنتشر عبر الجسم السياسي، مما يضعف روح القوانين ويقوِّض مبادئ النظام…ويعتمد شكل الفيروس على شكل الحكومة التي يهاجمها؛ ففي أنظمة أكثر شعبية، مثل الجمهوريات والديمقراطيات، يظهر فيروس الفساد كمصالح خاصة وكلاؤها هم الأفراد الجشعون، والفصائل المثيرة للجدل، جوهر الفساد في هذا المفهوم (الفساد كفيروس يصيب الجسد السياسي) هو تلوث الجمهور من قبل القطاع الخاص”.
ويرتبط هذا التحليل بمفهوم الفساد في المؤسسات؛ حيث “مناصرو نظرية الفساد المؤسسي يجادلون بأن ظهور الفساد يتوافق تمامًا مع غياب أفعال غير قانونية (وهو ما يمكن أن نسميه أطروحة التوافق)”.
فقد اعتبر دينيس تومبسون في معرض تفسيره لنمو الفساد في الأنظمة الديمقراطية، أن توصيف مؤسسة ما بالفساد لا يتطلب بالضرورة أن يرتكب أعضاؤها أفعالًا غير قانونية يمكن أن ترقى إلى جرائم فساد، وإنما مجرد تعطيل لوظيفتها تحت تأثير نفوذ القوى الاقتصادية يعتبر في حكم الفساد حيث وجدناه يقول: “مع لهجتها المؤسسية، يجب أن تذكِّرنا مبادئ الأخلاق التشريعية بأن الجرائم الفردية، والابتزاز، وغيرها من الأشكال غير اللائقة للكسب الشخصي ليست النوع الوحيد أو حتى الأساسي من الفساد الذي يهدد الحكومة الديمقراطية. وتحذِّرنا مبادئ الأخلاق التشريعية من البقاء في حالة تأهب بخصوص المزيد من الغموض، ولكن في الغالب أكثر أنواع الفساد هو ذاك الذي يحدث داخل قلب المؤسسة. فالأعضاء الذين يتصرفون ليس لتحقيق مكاسب شخصية ولكن مختلطة، أو حتى نبيلة، قد لا تزال الدوافع هي عوامل الفساد الأكثر خطورة، إنه الفساد تحت غطاء الواجب العام”.
على أن الأخلاق التشريعية هي نوع من الأخلاق السياسية التي تنص على مبادئ العمل في المؤسسات العامة، وهي مبدأ الاستقلالية الذي يفيد بأن يتصرف العضو لأسباب تتعلق باستحقاقات السياسات العامة، ثم مبدأ العدل والإنصاف والذي يعني قيام الأعضاء بالتزاماتهم تجاه المؤسسة، ومبدأ المساءلة الذي يوجب على أعضاء المؤسسة أن يعملوا من أجل خلق وحفظ ثقة الجمهور في تصرفاتهم وفي التشريعات.
وفي نفس الإطار، “فإن أشكال الفساد المؤسسي هذه تتوافق بحسب مارك وارن (WARREN MARK) مع انتهاك “المعيار الديمقراطي للشمول” عندما يكون هناك سوء استخدام للسلطات العمومية من قبل القوى الاقتصادية. فعندها يمكننا الحديث عن فساد الديمقراطية لأن هناك استبعاد من لديهم مطالبات مشروعة ليتم تضمينها في عمليات صنع القرار”. أي إذا تجاوزت المصالح الخاصة العملية الديمقراطية بتجنيد السلطة العامة في تعزيز غاياتها، فإنها تتحول إلى عوامل للفساد.
تكييف قانوني للقصة الرسمية للجنة البرلمانية حول المهمة الاستطلاعية لأسعار المحروقات
بالرغم من صمته فيما يتعلق بأرباح شركات المحروقات بعد تحرير القطاع، سجَّل تقرير اللجنة البرلمانية حول المهمة الاستطلاعية لأسعار المحروقات، اختلالات على مستوى العلاقة بين ثمن الخام أو المنافسة من جهة وسعر العموم من جهة ثانية، وعلى مستوى استثمارات شركات المحروقات.
فبخصوص مدى تأثير ثمن الخام على السعر العمومي، هناك علاقة وطيدة بين ثمن الخام في السوق الدولية، وثمن البيع للعموم…، غير أن انخفاض السعر الدولي للخام لا ينعكس آنيًّا على السعر العمومي وبنفس المقدار، علمًا بأن جل الاستثمارات التي انخرطت فيها شركات المحروقات مرتبطة بعمليات استيراد أو تخزين وبيع بالتقسيط…وهذا الجزء من الاستثمارات مدعَّم من طرف الدولة وفق برامج تواكبها وزارة الطاقة والمعادن،…الأمر الذي لا يثقل ميزانياتها كي يكون له تأثير سلبي في اتجاه الرفع من ثمن بيع المحروقات للمستهلك النهائي…. وحتى مع وجود المنافسة فسعر العموم لا يتأثر؛ حيث إن “الثمن المعلن من طرف الشركات المتنافسة غالبًا ما يتساوى أو يختلف ببضع سنتيمترات؛ مما قد يُفهَم منه نوع من التواطؤ بين الشركات”، مما يفيد بأن الشركات أساءت “استخدام الإجراءات التي تنظم نشاط كيانات القطاع الخاص، بمـا في ذلـك الإجـراءات المتعلقـة بالإعانـات والرخـص الـتي تمنحـها السـلطات العموميـــة للأنشــطة التجارية” وذلك طبقًا لما تنص عليه الفقرة (د) من المادة 12 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والتي صادق عليها المغرب.
وهكذا، فهذه الممارسات إنما هي محصِّلة عدم تحمل الدولة لمسؤولية المكافحة الاستباقية لفساد سلوك شركات المحروقات بموجب الفقرة (ب) من نفس المادة 12 من الاتفاقية المذكورة والتي تُلزم الدولة بـ”العمل على وضع معايير وإجراءات تستهدف صون نزاهة كيانات القطاع الخاص ذات الصلة، بما في ذلك وضع مدونات سلوك من أجل قيام المنشآت التجارية وجميع المهن ذات الصلة بممارسة أنشطتها على وجه صحيح ومشرِّف وسليم ومنع تضارب المصالح، ومن ترويج استخدام الممارسات الحسنة بين المنشآت التجارية وفي العلاقات التعاقدية بين تلك المنشآت والدولة”، وكذا انسحابها من مسؤوليتها في كشف ووقف فساد حسابات شركات المحروقات تحت طائلة التربح غير المشروع أو الغش، وذلك بحسب مقتضى الفقرة (و) من نفس المادة 12 التي توجب على الدولة “ضمـان أن تكـون لـدى منشـآت القطـاع الخـاص، مـع أخـذ بنيتـها وحجمــها بعـين الاعتبـار، ضوابـط كافيـة لمراجعـة الحســابات داخليــًّا تســاعد علــى منــع أفعــال الفســاد وكشـفها وضمـان أن تكـون حسـابات منشـآت القطـاع الخـاص هـذه وبياناتها الماليـة اللازمــة خاضعة لإجراءات مراجعة حسابات وتصديق ملائمة”.
وتصطدم ملاحقة الفساد في مؤسسات القطاع الخاص بعدم إمكانية متابعتها طبقًا للقانون المغربي خاصة حينما يتعلق الأمر بممارسات مستحدثة يمكن تكييفها على أنها فساد لكن غير مدرجة في نطاق الممارسات الفسادية التقليدية؛ حيث “تتسـم العقوبات المفروضـة علـى جريمـة الاخـتلاس في القطـاع الخـاص بالتسـاهل وربمـا يتسـم تأثيرهـا الرادع بالمحدودية. التشـريع الجنـائي المغـربي لا يتضـمن -علـى وجـه التحديـد- حكمـًا يحـدد المسـؤولية الجنائيـة للشخصـيات الاعتباريـة بوجـه عـام، إلاَّ أنَّ هنـاك عـددًا مـن مـواد القـانون الجنائي تتضمن العقوبات الجزائيـة والتـدابير الرادعـة الموجهـة نحـو الشخصـيات الاعتباريـة الـتي تحمل المسؤولية القانونية عـن جـرائم بعينـها”.
ولذلك، فحتى مع صدور تقرير المهمة الاستطلاعية لم تتدارك الدولة تقصيراتها بتحمل مسؤوليتها اللاحقة طبقًا لمنطوق الفقرة (1) من المادة 12 من الاتفاقية التي تنص على أن “تتخذ كل دولة طرف تدابير لمنع ضلوع القطاع الخاص في الفساد، ولتعزيز معايير المحاسبة ومراجعة الحسابات في القطاع الخاص، وتفرض عند الاقتضاء عقوبات مدنية أو إدارية أو جنائية تكون فعالة ومتناسبة ورادعة على عدم الامتثال لهذه التدابير”، وكذا المادة 35 التي تنص على أن “تتخذ كل دولة طرف كل ما قد يلزم من تدابير، وفقًا لمبادئ قانونها الداخلي، لضمان حق الكيانات أو الأشخاص الذين أصابهم ضرر نتيجة لفعل فساد في رفع دعوى قضائية ضد المسؤولين عن إحداث ذلك الضرر، بغية الحصول على تعويض” علمًا بأنه “…يجوز أن تكون مسؤولية الشخصيات الاعتبارية جنائية أو مدنية أو إدارية”، بناء على الفقرة 2 من المادة 26 من الاتفاقية. حيث في البداية لم تستجب الدولة لدعوات مكونات الرأي العام الوطني باسترجاع مبالغ الأرباح التي راكمتها شركات المحروقات بوجه غير مستحق، كما تم لاحقًا حفظ دعوى قضائية رفعتها الجمعية المغربية لحماية المال العام وجهتها إلى رئيس النيابة العامة تلتمس فيها إجراء أبحاث وتحريات بشأن افتراض وجود شبهة الإخلال بقواعد المنافسة الحرة وحرية الأسعار واحتكار سوق المحروقات من قبل شركات معينة حققت أرباحًا خرقًا للقانون وترتب عنها الإضرار بحقوق المستهلك.
فساد منظومة تسعير المحروقات مع وقف تنفيذ المكافحة القانونية
ضمن تقييمها للنظام الوطني للنزاهة في المغرب سنة 2014، جاء ضمن خلاصات الدراسة التي قام بها الفرع المحلي لمنظمة الشفافية الدولية أن “اقتصاد الريع يبدو وكأنه يحتاج لعوامل سانحة وضرورية للفساد المزمن”، حيث سجل القطاع الخاص المغربي في مؤشر الفساد العام 43 نقطة من العلامة الكاملة 100 (درجة انعدام الفساد)، ومن حيث المؤشرات الفرعية، حصل القطاع الخاص في مؤشر ممارسة الشفافية على 50 نقطة من 100، وفي مؤشر ممارسة آليات النزاهة حصل على 25 نقطة من 100، ثم في مؤشر الالتزام بمحاربة الفساد حصل على 25 نقطة من 100.
ورغم تحسن ترتيب المغرب النسبي في مؤشرات الفساد خلال السنوات الأخيرة، إلا أن تنقيطه فيها -وهذا هو الأهم- يظل ضعيفًا، وفي ظل مثل هذا الوضع فالمغرب أخذ في التحول إلى ورشة للافتراس يسود فيها منطق السمك، أي الكبير يأكل الصغير، حيث صار الفساد من أهم مسببات الفجوة الاجتماعية بين المواطن ونخبة المال. ومن هنا، فإن الحفاظ على دوائر المصالح التي بُنيت في وقت سابق على تحرير قطاع المحروقات، هو ما يفسر استحالة القانون إلى أداة للتخديم على الأقلية الثروية التي تمثلها الشركات المحتكرة للقطاع.
فقد تبين من الوثائق الرسمية التي أمدَّت بها قطاعات حكومية أعضاء المهمة الاستطلاعية حول أسعار المحروقات أنها استندت إلى فرضية ربح درهم واحد في كل لتر من المحروقات في حين أن الواقع ووثائق بعض شركات المحروقات المسجلة في البورصة تكشف عن حوالي 3 دراهم كربح صافي في كل لتر، وهو ما اعتبره البعض ربحًا غير أخلاقي، والبعض الآخر ريعًا، دون امتلاك الجرأة على توصيفه بأنه فساد حقيقي، وهي زلة أقبح منها عذر فساد دور أدوات مكافحة الفساد (المؤسسات الدستورية).
وهكذا، فالجواب عن السؤال المتعلق بإفلات شركات المحروقات المعتدية على “قوت” المواطنين من المتابعة، لا يستقيم إلا بالتعرض أولًا لما طال قيمة وحجية قواعد القانون من إهدار وبالتالي للبنية التشريعية التي يجسدها البرلمان، ثم –ثانيًا- لاستغلال الحكومة لسلطة التشريع لتحصين أعمالها من المساءلة، مما يمثل اعتداء على فلسفة التشريع بدعوى الحفاظ على مصالح اقتصادية مباشرة، وذلك في تجاوز لروح دستور البلاد الذي يقتضي أن حماية المصلحة العامة واجب قانوني؛ حيث إن الحكومة لا تهتم سوى بالشكل الدستوري للتشريعات، بل إن القوانين لا تتفق حتى مع ظاهر المبادئ الدستورية مما يترك الباب مفتوحًا لتمرير الأجندة السياسية والاقتصادية التي تتبناها الطبقات المسيطرة.
فمن جهة أولى، خضع البرلمان لضغوطات من قبل لوبي شركات المحروقات مع منهجية إعداد تقرير المهمة الاستطلاعية، حيث تم إخراجه بالتوافق بين الأعضاء على حساب الحقيقة الكاملة، وهو ما جعل التقرير يخرج في صيغة أولى كاشفة سرعان ما تم سحبها وتعويضها بنسخة متوازنة. وفي مرحلة مناقشة التقرير على نقائصه، لم يتخذ البرلمان الإجراءات القانونية لدى الجهات المختلفة كاستجواب الوزير المعني وهو ما أفرغ دوره الرقابي في مساءلة الحكومة من مضمونه، وبالتالي نفى الثقة في قدرة الدولة بمؤسساتها المختلفة وفي مقدمتها البرلمان على مواجهة الفساد. فخلود تقرير اللجنة الاستطلاعية إلى الإقبار -والحالة هذه- يجعل أي عمل رقابي يقوم به البرلمان أو حتى الأجهزة الرقابية الأخرى عملًا غير ذي قيمة، إذ كل فاعل اقتصادي أخذ يعلم تمام العلم أن الاعتداء على المال العام لم يعد بالخطورة التي يفترض أن يكون عليها. ولعل ما انتهى إليه تدخل البرلمان يشير إلى غياب الأولويات لديه؛ حيث تصدى لدوره الرقابي ولم يُعمل دوره السياسي باعتباره سلطة تشريع؛ حيث بالعودة إلى دراسة النظام الوطني للنزاهة، سنة 2014، المشار إليها سابقًا فقد “حصل البرلمان في مؤشر الدور الرقابي والتشريعي في مجال محاربة الفساد على 50 نقطة من 100 فيما يخص مساهمته في الإطار القانوني المكافِح للفساد، في الوقت الذي لم يحصل سوى على 25 نقطة من 100 على مستوى ممارساته الملاحِقة للفساد”. ومرد ذلك أن مبادرة البرلمان باقتراح تشريعات تساعد على مواجهة الفساد تظل ضعيفة، حيث يغيب قانون للإفصاح عن المعلومات في القطاع الخاص، وقوانين لمحاسبة المعتدين على أموال الشعب من شخصيات القانون الخاص الاعتبارية. وحتى مع ذلك لم يكن من المتصور أخيرًا أن تجهض الأغلبية البرلمانية تعديلًا على قانون مالية سنة 2019 اقترح رفع نسبة المساهمة التضامنية من 2,5% إلى 5% على شركات المحروقات كصيغة لاسترجاع ما زاد عن هامش الأرباح المستحقة لها بعد تحرير القطاع.
ومن جهة ثانية، لم تتعامل الحكومة بمنتهى الجدية مع تقرير اللجنة البرلمانية، حيث لم تفعِّل التوصيات التي تضمنها تقرير المهمة الاستطلاعية وأهمها إصدار مرسوم لتسقيف أسعار المحروقات وذلك لوقف جشع الشركات الفاعلة، كما لم تفعِّل قانون مجلس المنافسة الذي يفرض غرامة تقدر بـ10% على الشركات التي تتواطأ في تحديد الأسعار حتى إن كان مجلس المنافسة أقرَّ أنه يصعب تأكيد ثبوت عملية التواطؤ بين هذه الشركات، وليس ذلك سوى نتيجة لعجز القانون المنظم لمجلس المنافسة عن مراقبة الأسعار ما دام دوره استشاريًّا وليس تقريريًّا؛ ذلك أن الآليات التي استحدثتها الحكومة لمحاربة عموم الفساد تظل ضعيفة؛ “إذ لم يحصل مؤشر أعمال الحكومة في هذا المجال سوى على 25 نقطة من 100”. كما تبين أن الحكومة ومنذ قرار تحرير قطاع المحروقات استغلت سيطرتها على التشريع في غض الطرف عن تطوير التشريعات الاجتماعية لمواكبة إصلاح صندوق المقاصة في الجانب المتعلق بإلغاء دعم الدولة لقطاع المحروقات بما يرفع الأعباء عن المواطنين، بحيث لم يمس ذلك الإصلاح البنية التشريعية المتعلقة بعملية تفصيل القوانين، خاصة أن تقرير اللجنة أكد على “التأثير المباشر لارتفاع أسعار المحروقات على القدرة الشرائية للمواطنين”، إذ كان من المفروض في نفس الإطار توزيع أعباء الإصلاح على الدخول بدل توزيعه على المواطنين أي من يستفيد أكثر من النتائج الإيجابية للإصلاح ينبغي أن يتحمل الجانب الأكبر من تكاليفه. ولهذا، ففي الوقت الذي تحمَّل الفقراء ومتوسطو الدخل أعباء الإصلاح، لا يحظى هذا الأخير بتأييد شعبي مما يجعله في مواجهة معارضة قوية تتفجر عنها يومًا بعد يوم موجة رفض سياسي واجتماعي خاصة بعدما أكد تقرير اللجنة البرلمانية أن شركات المحروقات استفادت بشكل فاحش من تحرير الأسعار على حساب جيوب المواطنين وعلى مرأى ومسمع من الدولة.
خاتمة
لقد أعادت اللجنة البرلمانية حول المهمة الاستطلاعية لأسعار المحروقات إنتاج نفس طريقة عمل لجان سابقة وبالتالي نفس الصورة الذهنية التي رسخت لدى الرأي العام، حيث ما قامت به لم يكن كافيًا لإعادة الثقة والاعتبار للمؤسسة البرلمانية، حيث إن لجانًا برلمانية سابقة نزعت عنها كثيرًا من الثقة حول قضايا شائكة شغلت الرأي العام سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
كما أن حادثة فساد منظومة تسعير المحروقات بالمغرب ليست فضيحة اقتصادية فحسب، وإنما هي مؤشر على تصدع الحكومة التي تحولت إلى أداة لاقتصاد الريع من حيث القيام بأدوار تسكينية لتمرير سياسات كارثية من مثل تحرير قطاع المحروقات، حيث تحولت الدولة إلى شبكة امتيازات مغلقة تديرها أقلية ثروية، وليست حماية رؤوس الفساد تعني سوى حماية كامل الجسد. ولذلك، فهذه الحادثة تدلِّل أيضًا على عدم مصداقية استراتيجية مكافحة الفساد الذي يقترفه القطاع الخاص إن على مستوى الوقاية أو الرقابة أو العقاب.
لكن في المقابل وبغاية تطوير هذه الاستراتيجية، يتوجب “أن تسود الشفافية والعلانية في البيئة الاقتصادية وأن تتوفر المعلومات الاقتصادية السليمة عن مختلف جوانب الحياة بما في ذلك توزيع الدخل القومي والإنتاج والأسعار والأرباح والخسائر…إن توفر الشفافية والمعلومات ضمن مناخ يتسم بالحرية من شأنه أن يسلِّط الضوء على الانحرافات التي قد تحصل من أصحاب الفعاليات الاقتصادية…”. غير أن ذلك يتوقف على جملة من التصحيحات التشريعية أهمها إصدار قوانين لتجريم الكسب غير المشروع وتضارب المصالح بوصفه أخطر حلقة في سلسلة الفساد، ولضمان إمكان الطعن في تعاقدات الحكومة مع المستثمرين، علمًا بـ”أن حق الادعاء الخاص من جانب الأفراد ضد الممارسات الاحتكارية أو عقود الخصخصة مكفول في أكبر البلدان الرأسمالية في العالم”.
* د. نبيل زكاوي، رئيس مركز تفكر للدراسات والأبحاث الاستراتيجية.