في زمنٍ تتداخل فيه السياسة بالأخلاق، ويضيع فيه الخط الفاصل بين الخطاب والممارسة، خرج نزار بركة — الأمين العام لحزب الاستقلال ووزير التجهيز والماء — بخطاب غير مألوف في المشهد السياسي المغربي. خلال فعاليات ملتقى الميزان للشباب 2.0، وأمام أكثر من 1500 شاب وشابة من مختلف جهات المملكة، تحدث بركة بلغةٍ مباشرة عن “الفساد الذي ازداد”، وعن “ثقافة الهمزة والوصولية والفراقشية” التي نخرت القيم الوطنية وأضعفت ثقة المواطن في وطنه.
خطاب يبدو للوهلة الأولى صادقًا في تشخيص الداء، لكنه يطرح سؤالًا جوهريًا لا يمكن تجاوزه: كيف لحزبٍ مشاركٍ في الحكومة، يمتلك وزراء وحقائب استراتيجية، أن يتحدث عن فسادٍ لم يتمكن من محاربته من داخل مؤسسات السلطة نفسها؟
منذ تولي التحالف الحكومي الحالي مهامه، والذي يُعد حزب الاستقلال أحد أركانه الأساسية، لم تُسجَّل تحولات ملموسة في محاربة الفساد أو في ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية والشفافية. بل على العكس، تعمقت فجوة الثقة بين المواطن والدولة، وتنامى الإحساس العام بأن الخطاب الإصلاحي لم يتجاوز بعدُ دائرة الشعارات.
نزار بركة حين يتحدث عن “أزمة القيم”، يلامس في العمق جرحًا مجتمعيًا عميقًا، لكنه في الوقت نفسه يعيدنا إلى مفارقة السياسة المغربية: حين يصبح المسؤول الحكومي واعظًا أخلاقيًا، بدل أن يكون صانع سياسات عملية لإصلاح الواقع.
فالحديث عن الأخلاق لا يعفي من المسؤولية السياسية، تمامًا كما أن النداء إلى استعادة القيم الإسلامية لا يمكن أن يُخفي ضعف فعالية مؤسسات المراقبة والمحاسبة التي تشارك الأحزاب نفسها في تشكيلها.
اللافت في خطاب بركة أنه أعاد طرح مفهوم “الفتح المبين”، مستشهدًا بالآية الكريمة التي استند إليها جلالة الملك محمد السادس في أحد خطبه: “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”. لكن هل نحن فعلًا أمام فتحٍ جديد في الوعي السياسي المغربي، أم أمام فتحٍ رمزي يحاول من خلاله حزب الاستقلال أن يستعيد شيئًا من بريقه التاريخي، بعد أن تاه في براغماتية التحالفات الحكومية؟
لقد لمس بركة بجرأة أزمةً عميقة تتجاوز السياسة إلى عمق المجتمع: تآكل القيم، تراجع ثقافة المصلحة العامة، صعود الوصولية كمعيار للنجاح، وتحول “الهمزة” إلى أسلوب عيش أكثر منه سلوكًا عرضيًا. لكن، هل يمكن تغيير هذه البنية القيمية من خلال خطابٍ فقط؟ أم أن المطلوب هو ثورة مؤسساتية تُعيد الاعتبار للكفاءة والمساءلة، بدل الريع والولاءات؟
التحليل الواقعي يفرض سؤالًا أكثر إحراجًا: هل يملك حزب الاستقلال، وهو جزء من الأغلبية الحاكمة، الشجاعة لتطبيق ما يدعو إليه؟ أم أن خطابه الأخلاقي يبقى محاولة رمزية لتلميع صورة المشاركة في حكومة لم تُقنع بعدُ الشارع المغربي بقدرتها على إحداث التغيير؟
ما يقوله نزار بركة مهم، بل ضروري. لكنه سيكون أكثر عمقًا وتأثيرًا لو تحوّل من لغة التنديد إلى لغة الفعل؛ من دعوة إلى مراجعة القيم إلى سياسات ملموسة تُعيد الثقة بين المواطن والدولة، وتُبرهن أن الإصلاح الأخلاقي لا ينفصل عن الإصلاح السياسي.
في النهاية، خطاب نزار بركة ليس مجرد لحظة بلاغية عابرة، بل هو مرآة لقلق سياسي جماعي يعيش على إيقاع وعود الإصلاح المؤجلة، بين وعيٍ متألمٍ بالانحدار القيمي، وعجزٍ مستمر عن ترجمة الأخلاق إلى سياسة.
ويبقى السؤال مفتوحًا أمام الطبقة السياسية كلها — لا أمام حزبٍ واحد —: هل نستطيع حقًا أن نحارب “ثقافة الهمزة” ونحن ما زلنا أسرى “ثقافة التبرير”؟