في زمن تتسابق فيه بعض المنصات الإعلامية على إنتاج الإثارة بدل تقديم الحقيقة، يُمكن لعنوان مُثير أن يسبق الواقع بخطوات، ويُشيع حالة من التوتّر بين مؤسسات دستورية دون أساس. هذا تماماً ما حصل حين راجت أخبار تفيد بوجود “استنفار قضائي” إثر تصريحات منسوبة لوزير العدل عبد اللطيف وهبي، قبل أن يُكذّبها مصدر موثوق من داخل المؤسسة القضائية.
ففي اتصال هاتفي خصّ به صحيفة “المغرب الآن”، نفى القاضي محمد الرضوان، رئيس الودادية الحسنية للقضاة، بشكل قاطع ما راج من معطيات حول استعداد القضاة لعقد اجتماع عاجل أو التعبير عن “غضب جماعي”، واصفًا ما تم تداوله على نطاق واسع في موقع مغربي كبير يُعد مرجعًا وطنيًا للصحافة الدولية، بأنه “غير دقيق”. وأكد أن الودادية لم تُعر هذه التصريحات أي اهتمام، ولن تُعقد أي جلسة بشأنها.
هل نحن أمام صناعة “استنفار إعلامي”؟
تصريحات الرضوان التي جاءت بنبرة هادئة لكنها حاسمة، تنسف السردية التي حاولت رسم ملامح أزمة صامتة بين الجهاز القضائي ووزارة العدل. فما الذي يدفع بعض الأقلام إلى استباق المواقف، وتقديمها للرأي العام كحقائق لا تقبل الشك؟
وهل يُمكن الحديث عن “غضب القضاة” دون أي بلاغ رسمي، أو حتى تسريبات موثوقة من داخل الجسم القضائي؟
اللافت أن مصدر الخبر لم يُشر إلى أسماء أو وثائق أو تصريحات رسمية، بل اكتفى بصياغة تقرير يوحي بأن هناك “غلياناً” داخل السلك القضائي، ما أثار موجة من التعليقات والقراءات الانفعالية في وسائل التواصل الاجتماعي.
حين تُمس هيبة القضاء بتقارير مُتسرعة
القضاء ليس كغيره من المؤسسات: فهو حَكَم، وليس طرفاً. ومن ثم، فإن أي تعامل صحافي مع أخباره يجب أن يراعي هذا البُعد المؤسساتي، وأن يتحلى بالتحرّي والدقة والتوازن.
الترويج لـ”صدام” بين القضاة ووزير العدل، دون أدلة، لا يُسيء إلى عبد اللطيف وهبي فقط، بل يضرب في العمق صورة القضاء نفسه، ويفتح الباب أمام تأويلات مشبوهة حول استقلاليته أو حياده.
الرسالة التي يحملها النفي
تصريحات رئيس الودادية لم تأتِ فقط لتكذيب الخبر، بل حملت بين طيّاتها رسالة مبطّنة: القضاء المغربي لا يُدار بالانفعالات، ولا يُوظف في المناكفات السياسية أو الحملات الإعلامية. وقد يكون هذا الموقف الصارم بمثابة تذكير بدور المؤسسات الصحافية ومسؤوليتها الأخلاقية في التعاطي مع ملفّات من هذا النوع.
في الختام: من المسؤول عن إثارة العواصف الوهمية؟
ربما آن الأوان لإعادة فتح النقاش حول العلاقة بين الإعلام والمؤسسات، لا من زاوية “حرية التعبير”، بل من زاوية “حرية التلفيق” التي تتخفّى أحيانًا تحت ستار التحليل”.
فليس كل خبر جذابٍ حقيقة. وليس كل عنوان صاخبٍ يعكس واقعًا صلبًا. وفي زمن تتداخل فيه التدوينة بالتصريح، والادّعاء بالتحليل، يصبح واجب الصحافي – قبل غيره – أن يسأل نفسه: هل ما أكتبه يُضيء الحقيقة، أم يُشوش عليها؟