«هجرة القاصرين: الحلم الذي بدأ في المدرسة… وانتهى في البحر، وأطفال يكتبون رسائلهم الأخيرة بالماء»

0
100

على شاطئ فنيدق، عند تخوم سبتة المحتلة، تقف أمّ مغربية، تتشبّث بالأمل وهي تراقب ابنها القاصر يغامر بحياته سباحة نحو المجهول. كل موجة تتحطم على الشاطئ تحمل معها خوفها، وكل لحظة تمر تجعل قلبها ينقبض من الرهبة.

أمام هذا المشهد، وجدت نفسي، كصحافي وأب، أكتب والدموع تنساب على وجهي، لا لأنني مجرد ناقل للأخبار، بل لأن الإنسانية تفرض علينا أن نحسّ بما يشعر به الآخرون، وأن نشارك ألمهم، خشيتهم، وأملهم.

حياة الأمل الضائع… أكثر من حالة فردية
هذه الأم ليست حالة معزولة، بل هي مرآة لواقع آلاف الأسر المغربية التي أنهكها الفقر وضيق العيش، فدفع بأبنائها إلى أحضان المخاطر في سبيل حلم الحياة الكريمة. الكيلومترات القليلة بين الشواطئ المغربية وسبتة، تبدو للبعض قصيرة، لكنها بالنسبة للقاصرين المغاربة تتحول إلى اختبار الحياة أو الموت. فقد انتهت محاولات الكثيرين بالغرق، أو الإعادة القسرية، أو أيام طويلة في مراكز الاستقبال المكتظة، ليظل الأمل معلّقًا بين صرخات الأم وأمواج البحر.

حين يغيب الأفق… يصبح البحر مدرسة الحياة والموت
في يوليو الماضي، نجح 54 قاصرًا، أغلبهم مغاربة، في الوصول سباحة إلى سبتة، لكن هذه الأرقام لا تروي القصة الإنسانية خلفها. وفق الباحث في علم الاجتماع علي الشعباني، إن الظاهرة تتغذى على “أفكار مغلوطة عن حلم الهجرة”، وعلى هشاشة المنظومة التعليمية التي لم تعد قادرة على تأطير الأطفال وتأمين مستقبلهم. يقول الشعباني: “سمعت أطفالاً يقولون إن المدرسة لا تصلح لشيء، وهذا الانقطاع المبكر عن الدراسة يجعل الهجرة خيارًا مقبولًا لديهم، بل ربما الخيار الوحيد”.

الهجرة غير النظامية… انعكاس لفشل اقتصادي واجتماعي
الهجرة غير النظامية ليست مشكلة قانونية فقط، بل انعكاس لفشل اقتصادي واجتماعي. في يوليو الماضي، دعت الحكومة إلى اعتماد برامج لإيجاد فرص عمل، وإصلاح التعليم، وزيادة الأجور، وتنمية المناطق كافة. لكن الواقع يقول إن نحو خمسة آلاف قاصر مغربي وصلوا إلى إسبانيا عبر هجرة غير نظامية، بينما البطالة بين الشباب تصل إلى أكثر من 13%، وتكاليف المعيشة ترتفع بلا هوادة.

قوارب الموت… والاقتصاد الذي لا يُنقذ
القوارب الصغيرة، تلك “قوارب الموت”، تتحوّل إلى وسيلة حياة، ووسطاؤها إلى شركاء مأساويين في حلم الشباب بالهجرة. بعض العائلات، كما يوضح الشعباني، لم تعد تمنع أبنائها، بل تمول رحلتهم إلى المجهول، مستسلمةً لفشل الدولة في توفير فرص حقيقية، ولغياب أفق واضح لمستقبل أبنائها.

“بعض العائلات باتت تموّل رحلة أبنائها نحو المجهول”، يقول الشعباني، مشيرًا إلى ظاهرة مقلقة: تحوّل الهجرة إلى مشروع عائلي. في مناطق يغيب فيها الأمل، أصبح البحر جزءًا من الثقافة اليومية، والموت احتمالًا مقبولًا. إنه اقتصاد الفشل، حيث الدولة تعجز عن إدماج شبابها في النسيج الاقتصادي، وتتركهم فريسة للوسطاء وقوارب الموت.

جيل بلا أفق… ومجتمع في مفترق الطرق
مع كل محاولة عبور، ومع كل قاصر يقف على الشاطئ متردّدًا بين الأمل والخوف، يتضح أن المشكلة أعمق من مجرد سياسات أمنية أو حدود مشددة. إنها إشكالية متشابكة بين الفقر، والتعليم، والبطالة، والشعور بالإقصاء الاجتماعي. كيف يمكن للأطفال أن يحلموا بمستقبل في وطن لا يوفر لهم الحد الأدنى من الكرامة؟

تشير أرقام المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى أن مليونًا ونصف شاب مغربي بين 15 و24 سنة عاطلون عن العمل. رقم يكفي ليجعل من الهجرة الجماعية ظاهرة لا أمنية. جيلٌ كامل يشعر بالإقصاء والإحباط، جيل يرى أن البحر أقصر طريق إلى الاعتراف بوجوده.

لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يكفي أن نحارب الهجرة غير النظامية عبر الدوريات والمراقبة؟ أم أننا بحاجة إلى سياسة إنسانية جديدة تعيد للمدرسة دورها في بناء الأمل، وللاقتصاد وظيفته في إنتاج الكرامة؟

حكومة الأرقام… ومواطنو الألم
في مواجهة هذه الظاهرة، ترد الحكومة بالأرقام: ارتفاع النمو بنسبة 4.8٪، خلق 351 ألف منصب شغل، إطلاق برامج لمحاربة البطالة بقيمة 1.4 مليار دولار… لكن الأرقام لا تروي القصة كاملة.

فالمغاربة، وخاصة في الشمال، لا يبحثون عن نسب النمو، بل عن معنى الكرامة في الحياة اليومية. وحين يغيب ذلك المعنى، يصبح البحر وسيلة احتجاج غير معلن، صرخة صامتة ضد السياسات التي جعلت العيش في الوطن أصعب من الموت في البحر.

البحر مرآة الوطن
من شاطئ فنيدق إلى مراكز الإيواء الإسبانية، تتناثر قصص القاصرين المغاربة كصفحات من رواية واحدة عنوانها “غياب العدالة الاجتماعية”. كل موجة تبتلع حلمًا جديدًا، وكل جثة تعود إلى الشاطئ تذكّرنا بأن الوطن حين يضيق، يتّسع البحر.

فهل آن الأوان لأن ننظر إلى البحر لا كحدودٍ مائية، بل كحدودٍ أخلاقية لا يجوز للمغرب أن يتجاوزها بصمته؟

ختام إنساني… صرخة وطنية
في هذه اللحظة، على الشاطئ، بينما الأم تصرخ بصوتها الداخلي، أجد نفسي أكتب وأنا أبكي، ليس فقط لأجل ابنها، بل لأجل كل طفل مغربي يواجه واقعًا قاسياً. كصحافي، أعلم أن الكلمات لا توازي دموع هذه الأم، لكن ربما يمكن أن تكون بداية لإيقاظ ضمير المجتمع والسياسات، لتعيد لنا الأمل الذي اختبأ وراء الأمواج.

إن الهجرة القسرية للقاصرين، والأمل الضائع بين المدارس الفارغة وفرص العمل النادرة، ليست مجرد قضية إحصائية، بل هي صرخة وطنية تدعونا جميعًا لإعادة النظر في أولوياتنا، وإعادة الوطن إلى أبنائه قبل أن يتحول البحر إلى المقبرة الوحيدة للآمال.