بوانو يرفع سقف الأسئلة: من يحكم السياسة الدوائية؟ المصلحة العامة أم اللوبيات؟
في المشهد السياسي المغربي، ليست كل المداخلات سواء. بعضها يمرّ كخبر عابر، وبعضها يتحوّل إلى صفّارة إنذار تكشف ما هو أعمق، وتمسّ جوهر تدبير الشأن العام. مداخلة عبد الله بوانو، رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، تنتمي قطعًا إلى الفئة الثانية.
فالرجل لم يكتفِ بانتقاد صفقة دواء أو التشكيك في إجراء إداري؛ بل وضع وزارة الصحة والحكومة برمّتها أمام اتهامات ثقيلة تتعلق بتضارب المصالح، واستغلال النفوذ، ووجود شركات مرتبطة بأعضاء في الحكومة تحصد صفقات حساسة في قطاع لا يحتمل الخطأ.
بلاغ وزارة الصحة… ردّ أم محاولة لإطفاء الحريق؟
وزارة الصحة أصدرت بلاغًا ليليًا بدا، حسب بوانو، أقرب إلى “تمرين إنشائي” منه إلى ردّ رسمي. فالبلاغ لم ينفِ بشكل صريح استفادة الوزير المعني، ولم يقدّم وثائق، معطيات، مساطر، أو أي توضيحات تقنية تزيل الشكوك.
بلغة الصحافة: بلاغ بلا مضمون.
وإذا صحّ هذا التقدير، فإن السؤال يصبح مشروعًا: هل كان الهدف من البلاغ إقناع الرأي العام… أم التعتيم عليه؟
التوقيت… لغة أخرى للسياسة
من بين النقاط التي أثارها بوانو باحترافية سياسية، توقيت البلاغ. فالوزارة اختارت منتصف الليل، بينما البرلمان غارق في دراسة تعديلات قانون المالية. بالنسبة له، التوقيت “رسالة مريبة” تحمل في طياتها محاولة الضغط على البرلمان، أو على الأقل إرباك النقاش العمومي حول صفقات القطاع الصحي.
وهنا سؤال إضافي: لماذا تتعامل وزارة الصحة مع موضوع بهذه الحساسية بمنطق “بلاغات الليل” بدل وضع الملف على الطاولة بوضوح ومسؤولية؟
ATU… كلمة غامضة تتكرر كثيرًا ولا يشرحها أحد
أحد أخطر ما أثاره بوانو هو ملف التراخيص المؤقتة للاستعمال ATU، وهي مسطرة لا يعرف تفاصيلها سوى قلّة في القطاع، ومع ذلك تُستعمل – وفقه – “بشكل مكثّف وغير مسبوق”.
بوانو طالب بنشر لائحة الشركات المستفيدة من هذه التراخيص، وأسماء أصحابها، وهو مطلب يبدو بديهيًا في دولة ترفع شعار الشفافية.
هنا تبرز الأسئلة التي يجب أن يطرحها الصحافي لا السياسي فقط:
-
من يستفيد تحديدًا من نظام ATU؟
-
هل تتقاطع هذه الاستفادة مع مصالح فاعلين حكوميين؟
-
ما هي مساطر منح هذه التراخيص؟ ومن يراقبها؟
-
وهل تحوّل هذا النظام إلى بوابة خلفية لتمرير أدوية معيّنة دون المرور من المساطر العادية؟
صفقة الدواء الصيني… القصة التي أشعلت العاصفة
القنبلة التي فجّرت الجدل تتلخص في تصريح بوانو بأن وزير الصحة منح صفقة لدواء معيّن لمصلحة شركة وزير آخر في الحكومة (برادة)، وأن الدواء جرى استيراده من الصين ثم سُحب لاحقًا بسبب كون “لغته الصينية غير مفهومة”.
القصة، كما تبدو، ليست مجرّد “خطأ تقني”… بل قد تكون نقطة دخول لفهم شبكة علاقات اقتصادية داخل الحكومة نفسها.
وهنا سؤال منطقي: كيف تُعطى صفقة دواء لشركة يمتلكها عضو في الحكومة دون إثارة لجنة مراقبة أو تحفّظ إداري؟ وإذا كانت الوزارة تعتبر أن “لا امتيازات تُمنح”، فلماذا لا تقدّم الوثائق التي تثبت ذلك؟
البعد السياسي… مواجهة مباشرة مع منطق السلطة
بوانو لا يهاجم قطاعًا فقط؛ هو يواجه منطقًا سياسيًا يرى فيه تضارب المصالح “طبيعيًا” واعتباره مجرد ضوضاء انتخابية.
تصريحه بأن الوزارة أصبحت “ناطقا باسم اللوبيات” ليس جملة عابرة؛ بل هو اتهام مباشر بأن القرار الصحي أصبح خاضعًا لضغط اقتصادي لا لمعايير الجودة والمصلحة العامة.
وهنا تبرز الأسئلة السياسية الكبرى:
-
هل نحن أمام أزمة “حوكمة” صحية أم أمام أزمة “ثقة” سياسية؟
-
هل ستقبل الأغلبية تشكيل لجنة تقصي الحقائق؟
-
وإذا رفضت، ماذا سيكون معنى هذا الرفض أمام الرأي العام؟
-
وهل يتحول البرلمان إلى مجرد فضاء لإسكات الأصوات المزعجة بدل كشف الحقيقة؟


