في خرجة إعلامية جديدة خلال الندوة الصحافية الأسبوعية، حاول الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان، مصطفى بايتاس، أن يُعيد رسم ملامح خطاب حكومي يتردد كثيراً في الأشهر الأخيرة: “نحن حكومة اجتماعية”. لكن، ما وراء هذا الشعار؟ وما الذي يُخفيه التلويح بالأرقام المليارية؟ وهل نحن أمام سياسة اجتماعية مؤسسة على العدالة التوزيعية، أم مجرد إجراءات ظرفية لاحتواء أزمات متتالية؟
من العدالة إلى الدعم: تعديلات مفاهيمية أم تَحوُّلات بنيوية؟
الوزير لم يتحدث فقط عن الدعم، بل استهل مداخلته بالتشديد على ورش إصلاح العدالة، مشيراً إلى كونه ورشاً ذا أولوية ملكية. لكن هل يكفي تغيير مسميات، مثل تحويل “التراجمة المقبولين لدى المحاكم” إلى “التراجمة المحلفين”، أو توسيع شروط الولوج إلى المهنة، لنقول إننا نعيش بالفعل إصلاحًا عميقًا للعدالة؟ وماذا عن البطء في إصلاحات كبرى تمس جوهر استقلال القضاء ونجاعة تنفيذ الأحكام؟
هذا التقديم يطرح سؤالاً أكبر: هل تتحرك الحكومة في إصلاحاتها وفق منطق استراتيجي متكامل؟ أم أن المقاربة المعتمدة ما زالت تجزيئية وتقنية في جوهرها، تتعامل مع الملفات كلٌ على حدة؟
مليارات “الدعم”… هل تشتري الشرعية الاجتماعية؟
بايتاس كشف عن أرقام ضخمة: 105 مليار درهم لدعم المواد الأساسية، 46 ملياراً للحوار الاجتماعي، 10 مليارات لـ”أمو تضامن”، 4 مليارات لدعم السكن، وغير ذلك. أرقام لا شك في ثقلها المالي، ولكن ماذا عن أثرها على المستوى البنيوي؟
هل غيرت هذه المبالغ فعلاً من واقع الفقر والهشاشة، أم أنها مجرد مسكنات ظرفية تُصرف من أجل احتواء الاحتجاجات الاجتماعية وتمرير إصلاحات لا شعبية مثل حذف صندوق المقاصة أو مراجعة أنظمة التقاعد؟
الأرقام المقدمة تُظهر أن الحكومة تركز على الاستهداف الفردي بدل السياسات العمومية الهيكلية. هذا ما تحذر منه تقارير مثل البنك الدولي والمجلس الأعلى للحسابات، التي شددت مراراً على ضرورة ربط الدعم بخلق فرص الشغل، وتحسين التعليم، وتقليص الفوارق المجالية، بدل الاكتفاء بتحويلات مالية قد تُعيد إنتاج التبعية.
التغطية الصحية الشاملة: إنجاز أم مغالطة؟
أشار بايتاس بفخر إلى استفادة 11 مليون مغربي من نظام “أمو تضامن” بدل 11٪ فقط من “راميد”، واعتبر أن هذا التحول يكرس مبدأ المساواة في التغطية الصحية. لكن، هل توسّع الاستفادة يعني بالضرورة جودة الخدمة؟ تقارير اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية تحذر من توسيع التغطية دون تعزيز الموارد البشرية وتحسين بنيات الاستقبال.
هل نحن أمام توسيع كمي بدون جودة؟ وهل يُمكن تعميم العدالة الصحية في ظل تفاوت صارخ في توزيع المراكز والمستشفيات بين المدن والقرى، وفي ظل ضعف التحفيزات للأطر الصحية؟
السياق السياسي والدبلوماسي… لماذا الآن؟
في خضم تحديات إقليمية ودولية معقدة – من توتر أسعار الطاقة إلى أزمات الغذاء والمناخ – تسعى الحكومة إلى تصدير صورة “المُبادر الاجتماعي”، ليس فقط للاستهلاك الداخلي، ولكن أيضًا لتقوية موقعها في التقارير الدولية، خصوصاً في زمن تتزايد فيه مؤشرات المراقبة والضغط من المؤسسات المالية الدولية والدول الشريكة.
فهل هذه الخرجات جزء من استراتيجية ترويجية لصورة المغرب كدولة “ملتزمة بالحماية الاجتماعية”، أم أن هناك رغبة فعلية في بناء منظومة اجتماعية بديلة تقطع مع هشاشة الماضي؟
قراءة هادئة في الانتصار المغربي… أم مجرد توازن هش؟
الحديث عن دعم الأرامل، وتعميم التغطية الصحية، ودعم السكن، هو – دون شك – جزء من سردية الانتصار الاجتماعي المغربي. لكن الانتصار الحقيقي لا يقاس فقط بالأرقام، بل بمدى استدامتها، وقدرتها على تقليص الفوارق المجالية والطبقية، وبمدى مساهمتها في رفع جودة التعليم والصحة والشغل.
أليس حرياً بالحكومة اليوم أن توضح كيف ستربط هذه التحويلات بالدينامية الاقتصادية؟ وهل هناك ضمانات بأن هذه المجهودات ستُستثمر في رفع رأس المال البشري، خصوصاً في المناطق المهمشة؟
خلاصة مفتوحة:
ربما تُجسد هذه الخرجات الإعلامية محاولة لتقوية الجبهة الاجتماعية في مواجهة توترات اقتصادية واجتماعية متوقعة، لكنها تظل ناقصة ما لم تُترجم إلى إصلاحات هيكلية تُغيّر فعلاً من شروط العيش والإنتاج.
فهل تستثمر الحكومة هذه الفرصة لتأسيس “عقد اجتماعي جديد”؟ أم ستظل محكومة بهاجس “شراء الوقت” بأرقام الدعم بدل بناء دولة الرعاية؟