في خضمّ التوترات السياسية والاجتماعية التي تهز الجزائر من الداخل، تبرز قضية منطقة القبائل كأحد أعقد الملفات وأكثرها حساسية، خاصة مع تسارع دينامية “الاستقلال الرمزي” التي تقودها حكومة القبائل المؤقتة بالتعاون مع حركة “الماك”، وسط صمت رسمي جزائري وتزايد اهتمام المنظمات الدولية.
فما الذي يدفع اليوم حركة مثل “الماك” إلى تكثيف تحركاتها على مستوى العواصم الغربية (باريس، مونتريال، نيويورك) في توقيت سياسي متقلب إقليمياً؟ وهل تمثّل هذه التحركات منعطفاً حقيقياً في مسار النزعة الانفصالية داخل الجزائر؟ ثم ما موقع المغرب من كل ذلك، في ظل الاتهامات الرسمية الجزائرية المتكررة للمملكة بـ”دعم” ما تسميه “انفصالية القبائل”؟
خطوات منظمة نحو الاعتراف الدولي؟
قبل أسابيع، أعلن فرحات مهني، زعيم حركة “الماك”، من نيويورك عن “قيام دولة القبائل أمام الأمم المتحدة” – إعلان قد يبدو رمزياً في الظاهر، لكنه يحمل في عمقه رسالة دبلوماسية موجهة للمجتمع الدولي ومراكز القرار الغربي.
وبينما تستعد الحركة لتنظيم يومين مفتوحين في باريس ومونتريال (14 و15 يونيو 2025)، بدعم من الجالية القبائلية الناشطة في المهجر، يظهر أن استراتيجية الحركة تركز على تحويل “المظلومية التاريخية” إلى خطاب سيادي، موجه للمنظمات الحقوقية والدبلوماسية، يعزز مشروعية المطالبة بالانفصال عبر ما تسميه الحركة بـ”مسار التحرر السلمي المؤسسي”.
لكن، إلى أي مدى تنجح هذه الاستراتيجية دون اعتراف أممي؟ وهل تكفي رمزية الحضور الإعلامي والدبلوماسي لتجاوز عقبات الجغرافيا والسياسة؟
انفصال شعبي أم نخبوي؟
من خلال تصريحات الوزير الأول في “الحكومة القبائلية في المنفى”، الحنفي فرحوح، يتضح أن الرهان ليس فقط على الخطاب السياسي الخارجي، بل على تحويل الموقف الشعبي القبائلي من مجرد “مقاطعة الانتخابات الجزائرية” إلى قناعة جماعية بالطلاق السياسي التام.
فرحوح لا يكتفي بوصف مقاطعة الانتخابات في منطقة القبائل كعمل احتجاجي، بل كـ”إعلان سياسي عن فك الارتباط مع المشروع الوطني الجزائري”. وهو ما يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الانفصال التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، من كوسوفو إلى تيمور الشرقية، مروراً بجنوب السودان.
لكن يبقى السؤال الجوهري: هل تعبّر هذه المقاطعة عن إرادة شعبية حقيقية ممتدة داخل المنطقة، أم أنها محصورة في نخب الشتات والمثقفين؟ وهل تملك “الماك” فعلاً شرعية التمثيل للقبائل، أم أن هناك تباينات داخلية تُمَكّن الجزائر من الطعن في هذه المشروعية؟
الجزائر بين الإنكار والقمع… وغياب البدائل
يبدو أن الرد الجزائري لا يزال محصوراً في إنكار وجود “قضية قبائلية” من الأساس، وتوصيف حركة “الماك” بالإرهابية، ما يعكس – وفق عدة محللين – مأزقاً مزدوجاً: مأزق أمني يتمثل في العجز عن معالجة الملف عبر الحوار، ومأزق سياسي في ظل نظام سياسي مأزوم أصلاً.
تصريحات أكسيل بلعباسي، المستشار السياسي لفرحات مهني، حول “استمرار القمع ضد القبائليين” و”تشبث الحركة بإعلان الاستقلال قبل نهاية 2025″، تسلط الضوء على نوايا تصعيدية، تأتي في وقت لا تزال فيه الجزائر تعاني من ارتباك مؤسساتي، وصراعات نفوذ داخل الجيش والرئاسة، وانكفاء اقتصادي متزايد.
موقع المغرب: بين الاتهامات الجزائرية والسياق الدولي
منذ أن عبّر المغرب صراحة في 2021 عبر ممثله في الأمم المتحدة عمر هلال عن “حق القبائل في تقرير مصيرهم”، دخل الملف في دائرة التوتر بين الرباط والجزائر. وقد مثّل هذا التصريح أحد الأسباب الرئيسية لقطع العلاقات الدبلوماسية من طرف الجزائر.
غير أن المفارقة تكمن في أن المغرب، الذي يتعرض لمحاولات التشكيك في وحدته الترابية من طرف الجزائر عبر دعم جبهة البوليساريو، يجد نفسه اليوم في موقع “المرآة العاكسة” لما تفعله الجزائر في الصحراء، مع فارق أساسي: أن قضية القبائل لها امتداد شعبي ومجتمعي داخل الجزائر، وتحمل طابعاً لغوياً وثقافياً مختلفاً جذرياً عن الطابع العربي الإسلامي الرسمي للدولة.
وهنا تطرح أسئلة مشروعة:
-
هل تستفيد الرباط من هذا الحراك القبائلي لتقوية حججها في الصحراء؟
-
وهل يتجه المجتمع الدولي للتعامل بازدواجية مع مبدأ تقرير المصير تبعاً للمصالح الجيوسياسية؟