هل تهدد المواطنة العالمية مواطنتنا المغربية؟

0
218
عبد الله حتوس كاتب مغربي أمازيغي

كشف التدبير الكارثي لتداعيات وباء كورونا عن أزمة كبيرة يتخبط فيها مشروع المواطنة العالمية الذي تسوقه الكثير من هيئات الحكامة الدولية وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.

فالمواطنة العالمية، التي قُدمَتْ كمدخل أساسي لتعزيز ما يصطلح عليه بأنسنة العولمة من خلال شعور الأفراد بانتمائهم إلى عالم يجمعهم ووعيهم بأهمية احترام مبادئ المساواة والتسامح والعدالة، سقطت في امتحان الوباء، وظهر فراغ مبادئها من مضامينها بعد أن تاكد للجميع أن العولمة لا تطعم الجياع مجانا ولن توفر اللقاحات ضد الوباء إلا للدول التي تستطيع دفع ثمنها، وتأكد كذلك أنه في زمن الوباء تضَاعَفَتْ ثروة الأثرياء وزاد فقر الفقراء، كما أشار إلى ذلك تقرير “أوكسفام” حول اللامساواة، الصادر مؤخرا.   

إن دخول مشروع المواطنة العالمية في ذوامة أزمة كبيرة، رغم كل ما تمت تعبئتة من إمكانيات بغية تسويقه، يرخي بظلاله على  العلاقة بين ما هو محلي وطني وما هو عالمي كوني، فأزمة المواطنة العالمية، هي أيضا مسالة الخلل الكبير في هندسة ما يصطلح عليه بالتفكير عالميا والتنفيذ محليا (Penser globalement et agir localement). هذه الأزمة وهذا الخلل الكبير يسائلان أمم وشعوب المجتمعات العالمثالثية، يسائلان قدرتها على التوفيق بين مواطنة عالمية، مأزومة لكنها مع ذلك تسيطرتدريجيا على عقول أجيال الألفية الثالثة، ومواطنة محلية تفقد المساحات تلو الأخرى بسبب الفردانية المتطرفة وتراجع الانتماءات الجمعانية.

مغربيا، تسائل المواطنة العالمية قدرة بلادنا على النهوض بالمواطنة المغربية وتحصينها بالقدر الذي يكون فيه المواطن المغربي قادرا على التفاعل الذكي مع ما يحيط به على هذا الكوكب دون التفريط في ولائه للوطن وحقوقه وواجباته نحوه، كما تسائل قدرة المواطنين المغاربة على التوفيق بين مواطنة عالمية، فرضها سياق العولمة، ومواطنة مغربية ما زالت في حاجة إلى تعزيزها حتى يتملكها جميع المغاربة. 

فهل تشكل المواطنة العالمية تهديدا لمواطنتنا المغربية؟ 

لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف عند كل من مفاهيم المواطنة، المواطنة العالمية والمواطنة المغربية، وتناولها بالإيجاز الذي يسمح به المقال. 

مفهوم المواطنة 

إذا كان الفضل يعود للغة اللاتينية في ظهور مصطلح ” CIVIS” ومرادفه في اللغة العربية “المواطن”، فإن المواطنة ظهرت أولا في اليونان القديمة، حيث كان يقصد بالمواطن كل شخص حائز على حق المشاركة في تدبير الشأن العام. ففي أثينا، مثلا، لم يتمتع بصفة المواطنة سوى 10% من السكان حيث استثني من حق التمتع بالمواطنة كل من العبيد والنساء والغرباء (métèque) ، هذه الأقلية المعترف لها بالمواطنة، كانت تتمتع بحق المشاركة في النقاشات ذات الصلة بالقضايا الكبرى التي تهم الشأن العام وبالتالي لها إمكانية التأثير على القرار السياسي. 

ومن خلال ما كتب عن الموضوع، يمكن القول أن المواطنة في أثينا تتجاوز دائرة التاثير على القرار السياسي، لتظهر كركن أساسي من أركان المدينة المتحضرة (La cité policée)، فقد سأل أحدهم الشاعر ورجل القانون الأثيني سُولُونْ (حوالي 640 – 560 ق. م) عن المدينة المتحضرة فأجابه سُولُونْ”هي المكان الذي يشعر فيه جميع المواطنين بالإهانة التي قد يتعرض لها أحدهم، ويصرون بالقوة اللازمة على جبر الضرر بنفس القوة والإصرار الذي سيصدر عن  الشخص الذي تعرض للإهانة”. 

في العهد الروماني تطور المفهوم وتوسعت دائرة المتمتعين بصفة المواطن، ليتم تعميمها على كل الأحرار في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، سنة 212 م،  بموجب مرسوم الإمبراطور “كراكلا” الذي جعل جميع سكان الإمبراطورية سواسية يخضعون لقانون واحد ضمن الحقوق والحريات الأساسية التي منحت لهم.  ورغم أن المواطنة في العهد الروماني اقتربت من كونها مفهوما اجتماعيا، سياسيا وقانونيا يحدد شكل العلاقة بين الفرد الحر والإمبراطورية، فإنه سرعان ما تراجع وهجها بعد تدهور ثم انهيار الإمبراطورية، لتكون بذلك نسيا منسيا خلال العصور الوسطى الأوروبية. 

عاد مصطلح المواطنة إلى الظهور في القرن السابع عشر مع الثورة الإنجليزية، من خلال  أعمال المفكر البريطاني توماس هوبز، ولا سيما مضمون كتابه “في المواطن” ، كما كانت المواطنة في صلب اهتمامات الفلاسفة  طوال القرن الثامن عشر؛ لكن المواطنة ظلت وقفا على فئة محدودة من ذوي الثروة والمِلْكِية من الرجال، كما كان عليه الأمر سابقا، رغم كل التقدم الذي روكم خلال الثورة الإنجليزية سنة 1688 والثورة الأمريكية عام 1776 والثورة الفرنسية سنة 1789. وقد بقي الأمر على ذلك الحال حتى منتصف القرن العشرين، حيث تم تعميم حقوق المواطنة داخل كل دولة على جميع من يحملون جنسيتها. 

المواطنة العالمية

تعرف المواطنة العالمية، كما يسوقها عرابو العولمة وهيئات الحكامة الدولية، بأنها إيمان الفرد بضرورة التعايش السلمي مع الثقافات الأخرى حول العالم وإلمامه بالقضايا العالمية ومشاركته في إيجاد الحلول المناسبة لها وشعوره بالانتماء إلى العالم أجمع، واحترامه لمبادئ المساواة وحقوق الإنسان والتسامح والعدالة الاجتماعية واهتمامه بالبيئة العالمية وأهمية المحافظة عليها. وتعرف أيضاً بأنها مشاركة ووعي وإدراك الأفراد لواجبات والتزامات معينة تحقق الاندماج والتشارك وفق المعايير والقوانين والقيم التي تعلي من شأن الفرد وتنهض به، وتساهم في المحافظة على مصالح البيئة العالمية، والالتزام بقضايا ومشكلات العالم.

تحيل المواطنة العالمية، أيضا، إلى مجموعة من القيم مثل الانتماء والمشاركة الفاعلة والديمقراطية والتسامح والعدالة والتي تؤثر على شخصية الفرد فتجعله أكثر إيجابية في إدراك ما له من حقوق وما عليه من واجبات نحو العالم بأسره. كما تحيل إلى أهمية العمل من أجل بناء الفرد الكوسموبوليتي القادر على تجاوز الانتماءات الوطنية الضيقة ليكون في مستوى مواطنة أشمل لا تؤمن بالحدود ،هوياتية، لغوية او ثقافية كانت. 

المواطنة العالمية، كما يسوقها عرابوها، تطرح إشكالية تضارب الولاءات (conflit d’allégeance)  حيث يجد الافراد انفسهم أمام ضرورة الاختيار بين الولاء لأوطانهم وبين الولاء لوطن كوسموبوليتي عابر للحدود. فاختيار الافراد للمواطنة العالمية يدفع في اتجاه فك الإنتساب إلى وطن بعينه، وفك الارتباط بنمط ثقافي أصلي وما يختزنه من معتقدات وقيم ومعايير، كما يدفع للتحلل من التزاماتهم وواجباتهم اتجاه اوطانهم الأصلية، كما يدفع في اتجاه عالم تدوب فيه كل الخصوصيات في قالب واحد، والقالب، كما يشير إلى ذلك الكثير من المفكرين، لا يمكن أن يكون إلا قالب السوق الذي يتعامل مع الثقافات والهويات واللغات كما يتعامل مع العملات، حيث تطرد العملة القوية كل العملات الضعيفة.

يعيش الأفراد الكوسموبوليتيين، في إطار المواطنة العالمية،  بدون ارتباط وطني ويعتبرون انفسهم في حل من تقديم التضحيات أو تحمل المسؤولية عن أفعالهم، وحيث أنهم كوسموبوليتانيين ومواطنين عالميين فبإمكانهم رفض الإلتزامات التي تنطوي عليها المواطنة في كيان سياسي عادي. الفرد الكوسموبوليتي، على سبيل المثال، لا يعتبر التهرب من أداء ضرائبه جريمة في حق الوطن، ويعتبر تهريب أمواله إلى الخارج عملا عقلانيا، وحجم الأموال المهربة من دول العالم الثالث نحو أوروبا يكفي وحده للوقوف على حجم النزيف الذي ينهك أوطانا كثيرة بسبب ذلك. 

المواطنة المغربية

إن الحديث عن المواطنة المغربية يستدعي الحديث عن وجود المواطن المغربي من عدمه. دستوريا يمكن الحديث عن مواطن مغربي يتمتع بكل الحقوق والحريات التي أقرها دستور 2011، لكن في واقع الأمر هناك هوة كبيرة بين مضامين الدستور وحقائق المجتمع المغربي. فرغم تنصيص الوثيقة الدستورية على أن الديمقراطية المواطنة والتشاركية من الأسس التي يقوم عليها النظام الدستوري للمملكة، ورغم تخصيصها لواحد وعشرين فصلا لباب الحقوق والحريات الاساسية، فإن ضعف الثقافة القانونية لدى المواطنين وإحساس الكثيرين منهم بأن ما يحصلون عليه من حقوق هِبَة من الدولة، ليس إلا، يطرح علامات استفهام كبيرة على مدى تجذر المواطنة في المجتمع المغربي.

تجذر المواطنة في التربة المغربية وتَمَلُّكُهَا من طرف المغاربة،  في حاجة  إلى ديناميات ثقافية، اجتماعية وسياسية تؤطرها الأحزاب السياسية والتنطيمات المدنية، والتي اسند لها الدستور الكثير من الأدوار ذات الصلة. هي في حاجة، أيضا، إلى استكمال ورش التنزيل المواطن للمفهوم الجديد للسلطة الذي نادى به رئيس الدولة سنة 1999، و في حاجة إلى إحجام المغاربة عن تغليب خصوصياتهم اللغوية والقبلية والاجتماعية والدينية من أجل المشاركة على قدم المساواة مع إخوانهم في الوطن في العمل من أجل بناء وطن لا تكون فيه الواجبات مبررا للإجهاز على الحقوق أو سحب الشرعية عنها.

المواطنة المغربية في حاجة، كذلك، إلى مدرسة مغربية تغرس في الناشئة قيم التضامن والإلتزام الاجتماعي، فالتضامن كتجل من تجليات المواطنة لا يتحقق فقط بسن القوانين بل من خلال شبكات العلاقات بين المواطنين، أي شبكات مساهمين في رأسمال الوطن؛ ويُذْكر في هذا الباب، أنه سبق للمفكر المغربي عبد الله العروي، في محاضرة له حول المواطنة والمساهمة والمجاورة، أن تطرق إلى مفهوم المواطن المُسَاهِمْ، وإلى المواطنة كمرادف للمساهمة بمعنى حيازة سَهْم من السيادة. 

دور المدرسة كمشتل للمواطنة سبق وأن أكد عليه ملك البلاد، سنة 2006 ، في خطاب تنصيب المجلس الأعلى للتعليم حيث جاء فيه ” لقد أبينا إلا أن نفتتح الموسم الدراسي لهاته السنة بتنصيب المجلس الأعلى للتعليم، مجددين التأكيد على المكانة المتميزة التي نخص بها الإصلاح التربوي في مشروعنا التنموي، اعتبارا لدوره الحاسم في تعميم المعرفة، وترسيخ قيم المواطنة، وإعداد أجيال المستقبل.” لكن، وللأسف، المدرسة المغربية أبعد من أن تكون في مستوى العديد من المفاهيم التي جاء بها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، منذ أزيد من عشرين سنة، ومن بينها مفهوم المواطنة.

هل ستصمد المواطنة المغربية امام موج المواطنة العالمية؟

للتأكيد على أن هناك أزمة مواطنة بالمغرب، يشير البعض إلى نسب المغاربة الذين يريدون مغادرة البلاد للبحث عن ظروف عيش أمثل في غيره من الدول؛ ولئن كانت تلك النسب معبرة عن واقع مغربي يَعُج بالصعوبات، أهمها البطالة والفقر والهشاشة الاجتماعية التي تنخر الجسد الاجتماعي المغربي، فإنها ليست مؤشرات يمكن الاستدلال بها على وجود أزمة مواطنة بالبلاد. فقد اشار مسح قام به مكتبي الدراسات الأمريكيين  BCG و The Network ، سنة 2018، على أن 80% من الساكنة النشيطة بالمغرب تتمنى أن تغادر البلاد للعمل في الخارج، لكن ذات الدراسة أكدت على أن ثلاثة ارباع المغاربة المقيمين بالخارج يفكرون في العودة إلى بلادهم يوما ما.

فالمغاربة وإن كانوا يهربون من الأوضاع الهشة للبحث عن فرص افضل للعيش الكريم خارج المغرب، فإن ولاءهم للوطن يسكنهم، هذا الولاء أكدته تحويلات مغاربة الخارج في الستنين الأخيرتين، والتي وصلت رقما قياسيا أدهش الجميع، إذ وصلت 100 مليار درهم برسم سنة 2021. فمغاربة الخارج الذين يصل عددهم إلى 5 ملايين مغربي، أظهروا تضامنا كبيرا مع عائلاتهم بالوطن والتي تعيش أوضاعا صعبة بسبب تداعيات الجائحة على النسيج الاقتصادي الوطني. كل هذه المعطيات  تؤكد أنه مهما كانت الصعوبات ومهما كَفُرَ المغاربة بالوطن في لحظة يأس شديد، بفعل الأوضاع الاقتصادية والعلاقات غير السليمة بين المواطن والإدارة، فإن الإتنماء إلى الوطن متجدر عند الغالبية منهم.

 ارتكازا على هذه الأرقام، يمكن القول ان مواطنتنا المغربية، رغم ما تعانيه، يمكنها الصمود امام إغراءات المواطنة العالمية التي تعلي من شأن الفرد المتحرر من الحدود ومن الإنتماءات الجمعانية المحلية او الوطنية. لكن يجب ان لا ننسى أن المواطنين المغاربة المعنيين بالمعطيات أسفله ينتمون أساسا إلى الجيل إكس (مواليد منتصف الستينات إلى منتصف الثمانينات) وإلى جيل الألفية (مواليد الفترة ما بين 1981 و1996)، وهذه الأجيال عموما حافظت على انتماءاتها التقليدية بدءا بالعائلة وصولا إلى الوطن.

لكن مع الجيل زد (مواليد منتصف التسعينات إلى منتصف العقد الأول من الالفية الثالثة) وجيل ألفا (مواليد ما بعد 2010 إلى غاية عام 2025) سيكون الأمر مختلفا لعدة أسباب، أهمها يتمثل في كون هذين الجيلين تتنازعهما كل من المواطنة التقليدية والمواطنة الرقمية (Citoyenneté numérique) فهما يستمدان بعض عناصر هويتهما من وسائل التواصل الاجتماعي، وينهلان من منظومة القيم التي بلورها المجتمع الرقمي، كما انهما بدآ يأخذان تدريجيا مسافة تلو الاخرى من المواطنة التقليدية، لينخرطا في مواطنة عالمية قيد التبلور وفي خدمة سادة العولمة.

من الصعب التكهن بنتائج إنخراط هذين الجيلين في المواطنة العالمية، من بوابة المواطنة الرقمية، على المواطنة المغربية التقليدية، وهذه الصعوبة لا يختص بها المغرب وحده بل هي شأن يخص الكثير من دول العالم؛ فقد جاء في تقرير لمجلس الدولة الفرنسي تحت عنوان ” المواطنة: أن تكون مواطنا اليوم” ما يلي: 

« La capacité donnée à chacun de participer à la « cité numérique », y compris à l’échelle planétaire – le numérique donnant à chacun la possibilité d’être « citoyen du monde » – modifie ainsi en profondeur les conditions de formation de l’opinion publique, sans que l’on puisse encore en prédire toutes 

les conséquences ».

على سبيل الختم

سيتوقف مستقبل المغرب، سنة 2036 وما بعدها، على ما سيختاره جيل زد وجيل ألفا؛ فإما سيكونا حريصين على المواطنة المغربية  بكل ما تحمله من حرص على الحقوق والواجبات وتعزيز لقيم التضامن والإلتزام الاجتماعي، و في مستوى تحديات العقدين المقبلة وما يمكن ان تحمله من مفاجآت غير سارة بالنسبة للدول الفقيرة والسائرة في طريق النمو كالمغرب، أو سيكونا لقمة سائغة في محيط عولمة تتحكم فيها القوى الكبرى، منخرطين في مواطنة عالمية هي في واقع الأمر حصان طروادة العبودية الجديدة.

 من الحكمة، إذن، الإنصات إلى نبض الجيلين من طرف عقل الدولة، وفتح ما يكفي من الأوراش قصد تعزيز وترسيخ قيم المواطنة المغربية قبل فوات الأوان، بدءا بورش استكمال البناء الديمقراطي بابعاده السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية واللغوية، وصولا إلى النهوض بالمواطنة الرقمية المغربية بغية تأطير المجتمع الرقمي المغربي.