عيّن الملك المفدى محمد السادس، الإثنين ، زينب العدوي، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، خلفا لإدريس جطو، وهي القاضية السابقة بالمجلس الأعلى للحسابات والمسؤولة الأولى السابقة عن المفتشية العامة للإدارة الترابية. “حان الوقت للتفعيل الكامل لمبدأ ” ربط المسئولية بالمحاسبة”، فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولاً على كل المسؤولين من دون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة”.
امتثالاً للخطاب الملك ، في يوليو 2017، في الخطاب التاريخي الذي انتقد فيه المشهد السياسي في المغرب، داعياً إلى ضرورة تطبيق مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” على كل الفئات المسؤولة بدون استثناء. هذا المبدأ يرد في الدستور المغربي الذي ينص على ربط عدم إفلات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، سواء أكانوا سياسيين أو وزراء أو منتخبين في مختلف المناصب، من المحاسبة عند ثبوت تورطهم في تقصير أو اختلالات مهنية. والسؤال الآن: إلى أي مدى سيُطبّق هذا المبدأ؟
في عام 2018 نَفَّذَ الملك المفدى محمد السادس حفظه الله وعده بمحاسبة كبار المسؤولين المتورطين في ملفات الفساد أو المقصرين في مهامهم، إذ قام بإعفاء وزراء ومسؤولين حكوميين وإداريين ساميين ( ولات جهات وعمال عمالات ومدراء مؤسسات حكومية)، في ما ما عرف اعلاميا بـ”الزلزال السياسي”. بعد تقارير صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات الذي سجل اختلالات وتجاوزات هي بالأساس تعثرات تقنية وتأخيرات في إنجاز مشاريع حكومية هادفة إلى تنمية منطقة الحسيمة، وأُقرّت على خلفية احتجاجات شعبية طالبت بتحسين الخدمات والمرافق ورفع التهميش عن المنطقة.
تقرير جطو يفضح اختلالات وتبذير المال العمومي بوزارة الطالبي العلمي بدون محاسبة أوعقاب !؟
كشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات عن مجموعة من الخروقات المالية، وتبذير المال العمومي بوزارة الشبيبة والرياضة، وخاصة الصندوق الوطني لتنمية الرياضة، وملاعب القرب، حيث أظهر تدقيق الإيرادات السنوية المنجزة من طرف الصندوق الوطني خلال السنوات المالية 2011 – 2014 أنه كان يتبلغ بشكل خاطئ بمداخيل سنوية تفوق المبالغ المستحقة له فعليا.
وأوضح تقرير مجلس قضاة جطو لسنة 2018، أنه بناء على المطابقات المحاسبية التي قامت بها مصالح الوزارة المذكورة مع مصالح الخزينة العامة للمملكة سنة 2015 ، فقد تم حصر قيمة المداخيل المبلغة خطأ في حدود 22,1 مليار درهم، مشيرا إلى أن الخطأ في تبليغ مداخيل أكثر من المستحق يرجع إلى الطريقة غير السليمة، التي كانت متبعة لتحديد الرصيد الافتتاحي السنوي للصندوق، والتي كانت تقوم على إدراج وتقييد الاعتمادات المرحلة المتعلقة “بالباقي أداؤه” عن النفقات الملتزم بها من طرف الآمرين المساعدين بالصرف على مستوى المصالح الخارجية ضمن الاعتمادات المرحلة المتعلقة بفائض المداخيل التي لم تكن موضوع التزام مالي.
تقارير جطو تصبح وثائق بدون معنى ومجرد عمل للأرشيف بدون محاسبة لكبار المسؤولين !
قال محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، إن المجلس الأعلى للحسابات يمثل الجهاز الرقابي ذا الطبيعة شبه القضائية على مستوى صرف المال العام، مشيرا إلى أن الشبكة طالبت بتفعيل دور وتوسيع اختصاصات المجلس وتمكين قضاته من القيام بمهامهم القضائي، على اعتبار أن حجم الأموال العامة التي يتم نهبها أو تبذيرها سنويا في كافة القطاعات والمؤسسات، تتطلب وجود مؤسسات قوية حتى تتمكن من وقف هذا النزيف الذي يؤثر بشكل مباشر وخطير على التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا.
ويتجلى دور عمل المجلس الأعلى للحسابات ضمن المؤسسات الدستورية للدولة نظرا لتزايد أهميتها في ضبط النظام العام المالي عن طريق مراقبة المحاسبين العموميين والآمرين بالصرف سواء المعينين بشكل رسمي طبقا للقانون أو المسيرين بحكم الواقع لكيفية استعمالهم للمال العام ولمشروعية الإنفاق والالتزام المالي واستخلاص الموارد في إطار القوانين المالية وكذلك مراقبة التدبير الإداري للقطاعات العامة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية وتقييم أدائها ونجاعة عملها باستعمال التحقيقات والتحريات اللازمة إن اقتضى الأمر، وعموما تنقسم اختصاصات المحاكم المالية على رأسها المجلس الأعلى للحسابات إلى شقين، شق إداري مرتبط بالمهام أعلاه وشق قضائي متعلق بإصدار الجزاء التأديبي عن جميع المخالفات المرتبطة بعدم احترام القواعد المالية والمحاسبية للعمليات المالية المختلفة.
يعتبرمحمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن الإجراءات التي تقوم بها الحكومة والنوايا التي تُعبرعنها تبقى غير فعالة في غياب إرادة سياسية للتصدي لمظاهر الفساد، من رشوة ونهب للمال العام والإفلات من العقاب. فالمؤسسات التي أنيطت بها مهمات تخليق الحياة العامة تبقى غير فعالة، إذ ما زالت الهيئة المركزية للحماية من الرشوة تصارع من أجل إصدار قانون يوسع من مهماتها، ولا يزال المجلس الأعلى للحسابات يفتقد إلى العديد من الشروط الضرورية لممارسة مهماته.
ويخلص الغلوسي إلى أن الأمر أعمق من مجرد آليات وقوانين ومؤسسات، على أهميتها. ويشدد على ضرورة وجود جرأة ووضوح وإرادة سياسية حقيقية للتصدي للفساد والرشوة، نظرا للتأثير الكبير لتلك الآفة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي المغربي.
ويروي الخبير محمد براو أن موضوع الفساد كان من المحرمات في المغرب حتى النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، أي مع حكومة عبد الرحمن اليوسفي، الذي عمل على فتح هذا الملف مدشنا المرحلة الأولى من سياسات مكافحة الفساد في المغرب، ما استدعى استجابة من طرف الدولة ومؤسساتها.
ويعني النص الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة عدم إفلات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، سواء كانوا سياسيين أو وزراء أو منتخبين في مختلف المناصب، من المحاسبة عند ثبوت تورطهم في تقصير أو اختلالات مهنية، والتي غالباً ما يتم استنتاجها من تقارير تطالب بها جهات معينة، مثل القصر الملكي أو رئاسة الحكومة، أو تعمل عليها مؤسسات معينة، من قبيل المجلس الأعلى للحسابات. وتطبيق المبدأ الدستوري، المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع في الساحة المغربية، انقسم إلى مرحلتين زمنيتين رئيسيتين، الأولى امتدت منذ إقرار الدستور في 2011 من طرف الأغلبية الساحقة من الشعب، والثانية منذ سنة 2015 إلى اليوم. وفي المرحلة الأولى من عمر تنزيل دستور ربط المسؤولية بالمحاسبة، والذي كانت تنادي به أصوات وأحزاب سياسية باعتباره أحد أركان الديمقراطية في البلاد، أي منذ يوليو/تموز 2011 إلى يناير/كانون الثاني 2015، فإنه لم يتم تطبيق الدستور في هذا الصدد في أية شكاوى من مسؤولين وتقارير عن اختلالات معينة. وفي المرحلة الثانية، وخصوصاً منذ يناير/كانون الثاني 2015 إلى نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، عرف المشهد السياسي والحكومي المغربي عدة حالات من تطبيق مبدأ الربط بين المسؤولية والمحاسبة، من خلال إقالة وإعفاء مسؤولين من طرف الملك المغربي، محمد السادس، فضلاً عن معاقبة آخرين بعدم شغل أية مناصب مستقبلاً.
ويمكن القول إن ضغط الرأي العام الوطني، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي ونشطاء موقع “فيسبوك”، أو من خلال الاحتجاجات في الشوارع، ساهم بشكل كبير في تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ إن ضغوطات شديدة واحتجاجات عارمة في الشارع المغربي ساهمت في قرارات سياسية كبيرة، من حجم إعفاء وزراء ومسؤولين ساميين وكبار في الدولة. وكانت بداية سنة 2015 إيذاناً بأول تطبيق للمبدأ الدستوري الجديد، الذي لم يكن وارداً ولا منصوصاً عليه في دساتير سابقة، كما هو الحال عليه في الدستور الجديد، عندما تم إعفاء وزير الرياضة والشباب، محمد أوزين، بسبب تداعيات ما سمي حينها بفضيحة ملعب الرباط لكرة القدم، عندما غمرته مياه الأمطار، وصار بمثابة مسبح كبير خلال كأس العالم للأندية في ديسمبر/كانون الأول 2014. صورة الملعب الذي تحول إلى بركة ماء تناقلتها كبريات وسائل الإعلام الدولية بكثير من الاستهزاء والتبخيس، ما خدش حينها صورة البلاد، خصوصاً أنه تم تجفيف المياه بوسائل بدائية أثارت سخرية العالم، وهو ما أفضى إلى مطالب شعبية بإقالة الوزير، استجاب لها القصر الملكي. وتقدم رئيس الحكومة حينها، عبد الإله بنكيران، بطلب إلى القصر الملكي يلتمس فيه إعفاء أوزين من مهامه، جراء ثبوت اختلالات في الملعب الكبير للعاصمة، كشف عنه تحقيق أمرت بها السلطات العليا في البلاد، إذ أثبت التقرير حينها “المسؤولية السياسية والإدارية المباشرة لوزارة الشباب والرياضة”.
وبعد سنوات قليلة، سقطت رؤوس وزراء، بعد أن تم إعفاؤهم بطلب منهم جراء تضييق الخناق عليهم من طرف الرأي العام الوطني. وتم اعتبار قرار إعفائهم من مهامهم بمثابة نوع من تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك في حالة الوزير المكلف بقطاع التكوين المهني، عبد العظيم الكروج، بعد أن “تورط” في شراء كمية من الشوكولاتة الفاخرة لأغراض شخصية. وجاء إعفاء الوزير بطريقة سلسة، متوجاً تحقيقاً حكومياً تم خلاله رصد مسار حلوى فاخرة اشتراها الوزير من ميزانية الوزارة لحفل عائلي قبل أن تترصد الصحف والمنابر الإلكترونية فاتورة الشوكولاتة. وتمت الإطاحة بالكروج دفعة واحدة مع وزيرين آخرين، هما الحبيب الشوباني وسمية بنخلدون، لعزمهما الزواج، رغم أن الشوباني رجل متزوج، وهو ما أثار حينها ضجة عارمة سميت بـ”الكوبل الحكومي”.
ومرت سنوات من دون رصد اختلالات رسمية ترسخ مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة، إلى أن اندلعت احتجاجات منطقة الريف في أكتوبر/تشرين الأول 2016، لتكبر كرة الثلج تدريجياً، وتصبح قضية رأي عام وطني، وتتطور الأمور إلى اعتقالات في صفوف النشطاء، وتدخلات على أعلى مستوى في الدولة. وكان من نتائج احتجاجات مدينة الحسيمة تحديداً أن الملك محمد السادس وجه أوامره بفتح تحقيق صارم حيال المتسببين في تعثر وتأخر تنفيذ مشروع الحسيمة منارة المتوسط، باعتبار أن ذلك كان أحد العوامل الرئيسية التي دفعت المتظاهرين في الريف للخروج إلى الشوارع للاحتجاج على تردي أحوالهم الاجتماعية. وانبثقت التحقيقات في ملف الحسيمة، والتي باشرها قضاة المجلس الأعلى للحسابات، عن قرار العاهل المغربي إعفاء عدد من الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة، ضمنهم أربعة وزراء، ومسؤول رفيع المستوى يشغل منصب مدير مكتب الكهرباء، ومنع وزراء آخرين من تقلد مناصب رسمية مستقبلاً، ثم إعفاء 14 مسؤولاً كبيراً لم يتم تحديد هوياتهم بعد.
وجاءت واقعة مصرع 15 سيدة في إحدى دوائر إقليم الصويرة، بسبب التدافع حول مساعدات غذائية، لتدفع نحو تطبيق النص الدستوري الخاص بربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ اتجهت قرارات الإعفاء في حق مسؤولين في الدرك الملكي بسبب “التقصير” في ضبط الحشود البشرية. كما تم عرض محافظ المدينة على القضاء للاستماع إليه، في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات الجارية. وجاء التحول في تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع، بعد أن كان مجرد نص مكتوب على الورق من دون روح ولا تنفيذ، نتيجة خطب ملكية شددت أخيراً على ضرورة محاسبة كل مسؤول تورط في إخلالات، إذ قال محمد السادس، في إحدى خطبه، “أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ”.