أسدلت الدورة الخامسة من المناظرة الوطنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني ستارها بإصدار أكثر من 27 توصية، توزعت بين اقتراحات تقنية ومؤسساتية وتشريعية. لكن السؤال الأهم: هل تشكّل هذه التوصيات نقلة نوعية لهذا القطاع، أم أنها تكرار لصياغات سابقة لم تجد بعد طريقها إلى التنفيذ؟ وهل هناك إرادة حقيقية لتجاوز معضلة “الخطاب السياسي بدون أثر اقتصادي”؟
قطاع على الهامش رغم وعود الدولة
في الوقت الذي تُشيد فيه الحكومة بالدور “الاستراتيجي” للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يُظهر الواقع أنه لا يُساهم سوى بنسبة 2% إلى 3% من الناتج الداخلي الخام، حسب أرقام صادرة عن البنك الدولي، وهي نسبة متواضعة مقارنة بدول مثل فرنسا أو كندا، حيث يتجاوز هذا القطاع نسبة 10%.
وعلى الرغم من إدراج الاقتصاد الاجتماعي في النموذج التنموي الجديد، فإن غياب قانون إطار وتشتت التدخلات بين قطاعات متعددة (الداخلية، الفلاحة، الصناعة التقليدية…) يجعل من الصعب تحريك عجلة هذا القطاع.
أي جدوى للمرصد الوطني المقترح؟
من بين التوصيات البارزة: إحداث مرصد وطني للاقتصاد الاجتماعي والتضامني. ورغم أن الفكرة تبدو مغرية من حيث تجميع المعطيات وتوجيه السياسات العمومية، إلا أن هناك سؤالا مقلقا: هل نحن بصدد إحداث جهاز إضافي ضمن “تضخم المؤسسات” دون صلاحيات تنفيذية واضحة؟ وماذا عن تجربة المجلس الأعلى للتعليم الذي يمتلك مرصده منذ 2015، دون أثر حقيقي على قرارات الوزارة المعنية؟
إصلاحات أم تجميلات إدارية؟
طالبت المناظرة بـ”تبسيط المساطر الإدارية” و”تسهيل ولوج التعاونيات إلى التمويل”. ولكن هل يمكن تحقيق ذلك دون مراجعة شاملة للمنظومة الضريبية؟ فوفقًا لتقارير اليونسكو والبنك الدولي، فإن عدم ملاءمة النظم الضريبية والمالية يمثل عائقًا أساسيا أمام نمو الاقتصاد التضامني في بلدان الجنوب.
كما أن استمرار اعتماد نظام المحاسبة الكلاسيكي، وتضارب التفسيرات بين الجماعات المحلية ومصالح الضرائب، يجعل العديد من التعاونيات تعيش حالة “اللا وضوح القانوني”.
أين هو الاستثمار في الرأسمال البشري؟
رغم أن التوصيات شددت على “العناية بالرأسمال البشري”، إلا أن ذلك يبدو شعارًا عامًا ما لم يُربط بسياسات تكوين واضحة وممأسسة. فالحديث عن “دمج القطاع في المنظومة التعليمية” يبقى غير كافٍ إن لم تُرصد له برامج جامعية حقيقية، وشهادات رسمية، ومسالك مهنية معتمدة — على غرار التجربة الكندية التي تقدم برامج دراسات عليا في “الاقتصاد الاجتماعي”.
الرقمنة… توصية أم حاجة ملحة؟
توصية أخرى نصّت على “تعزيز التحول الرقمي في القطاع”، دون تفاصيل. وهنا يُطرح سؤال جوهري: هل نحن أمام “رقمنة الفقر” أم رقمنة الفاعلية؟ فالتجربة الدولية تُظهر أن الرقمنة في هذا القطاع لا يمكن أن تنجح بدون تمويل ابتكاري وشراكات مع الجامعات ومراكز البحث وبرامج مواكبة رقمية موجهة للفاعلين المحليين.
الجهوية واللامركزية: نية سياسية أم واقع مؤسسي؟
نادت المناظرة بـ”ربط الاقتصاد التضامني بالخيار الجهوي”، لكن غياب التزام حقيقي من الجهات والمجالس المنتخبة في دعم هذا القطاع يُثير القلق. لماذا لا تملك معظم الجهات اليوم “خارطة طريق جهوية” للاقتصاد التضامني؟ ولماذا لا يتم تخصيص جزء من ميزانياتها لدعم التعاونيات والمشاريع المجتمعية المحلية؟
ما بعد المناظرة: من سيتابع؟ من سيحاسب؟
في ختام التظاهرة، تم التأكيد على ضرورة “التعبئة الجماعية” و”تفعيل الاتفاقيات”. لكن هذه الشعارات فقدت الكثير من معناها بفعل غياب آليات التتبع والمساءلة. لماذا لا يتم إصدار تقرير سنوي لتتبع تنفيذ التوصيات، كما تفعل العديد من الدول؟ ولماذا لا يُشرك البرلمان والمجتمع المدني في تقييم السياسات؟
خلاصة نظرية:
رغم الجدية التي ميزت أشغال المناظرة، والمشاركة الواسعة للخبراء والفاعلين، إلا أن السياق المغربي والدولي يتطلب أكثر من توصيات. يتطلب التزاما سياسيا واضحا، وآليات تنفيذ دقيقة، وشراكة متعددة الأطراف. فهل نشهد في قادم الشهور بداية تغيير حقيقي؟ أم نعود مجددًا إلى أرشيف المناظرات والمواعيد الكبرى؟